محمد خياري
كنتُ منشغلاً مع صديقي العقلاني، نُقلب وجوه الحداثة ونُسائل الروحانيات في زمنٍ تتسارع فيه الخطى وتضيق فيه المسافات بين الإنسان وظله. كان حديثنا ممتدًا كخيط نورٍ بين قلبين، أحدهما يزن الأمور بميزان العقل، والآخر يفتح نوافذ القلب على أفقٍ لا يُحدّ. قلت له: إن الروحانيات في زمن الحداثة ليست ترفًا ولا انسحابًا، بل هي جسرٌ بين البحث عن المعنى والواقع المتسارع، جسرٌ يعبر فوق نهرٍ من المادية والتقنيات، ليصل إلى ضفةٍ حيث تسكن الذات في لحظةٍ مقدسة، وتتنفس الروح نسيمًا من الغيب.
العقلانية، كما تعلم، تعتمد على التحليل والمنطق، تُفكك الظواهر وتُعيد تركيبها، لكنها كثيرًا ما تُغفل ما لا يُقاس ولا يُرى. أما الروحانيات، فهي تجربةٌ ذاتية، بحثٌ عن القيم التي تمنح الحياة عمقًا وطمأنينة، هي ارتقاءٌ في زمنٍ يهبط فيه كل شيء نحو السطح. في عالمٍ مضطرب، تُصبح الروحانية ملاذًا، لا هروبًا، بل مقاومةً لفكرة أن كل شيء يُفسر بالعقل فقط، وتحديًا لسطوة المادة على المعنى.
وفجأة، التفتُّ إلى صديقي الروحاني، فوجدته متأرجحًا، كأن روحه في حالة اهتزاز، كأنّه يستشعر أن شيئًا ما ليس على ما يُرام. سألته: ما بك؟ فأجابني بصوتٍ مبللٍ بالخشوع: هذه أمورٌ جليلة عندنا، ذات قدسيةٍ عالية، لا تُفهم بسهولة، فهي تتعلق بجوهرنا، بمراتبٍ تتخطى القولبة المادية والعقلانية. هنا، حيث تتداخل القلوب مع المعاني السماوية، لا تكفي الكلمات، بل تطلب حساسيةٌ دقيقة كي نلمس الحقيقة.
قال لي: لا تظن أن الإشكاليات التي نعانيها سهلة، إنها أشبه بمن يحاول الإمساك بغصن نجاة وسط أمواج بحرٍ هائج، بحرٍ يتلاطم فيه الواقع بأمواجٍ من شكٍ وضجر. نحن نسير في طريقٍ محفوفٍ بالمخاطر، نبحث عن الضفة الأخرى، حيث تنحني القلوب تعظيمًا للخالق، وحيث تتسع الرحمة وتترسخ المحبة. هذه الرحلة ليست هروبًا، بل شوقٌ عميق نحو وطنٍ روحي، يحضننا بحنان السماء ويعانق قلوبنا بعظمة الخلود.
ثم همس لي: نشعر وكأن هناك من يتلاعب بإحداثيات ذبذبات اتصالنا الروحي، فالصلة التي كانت تربطنا بشيخنا، وارث السر النبوي، باتت مثقلةً بالعوائق. كانت تلك الصلة نبض الحياة، تنقل لنا أريج المعارف، النور الذي يهدي، والإحساس الذي يُوقظ الأسرار. أما اليوم، فنجد انخفاضًا في الذبذبات، كأن موجات النور تتبدد أو تتوه، وهذا الانقطاع لا يؤثر فقط على الفرد، بل يمتد إلى الجماعة، إلى الأمة.
قلت له: هذا الانفصام في الذبذبات الروحية يُقلقني كما يُقلقك، فهو كتمٌ لصوت الحكمة، وضياعٌ في متاهات الزمن، في تقنياتٍ قد تعزل الروح عن معينها. إن تأهيل هذه الصلة، وتصفية الذبذبات من التشويش، ليس فقط واجبًا دينيًا، بل ضرورةٌ روحية، كي لا نغرق في تياراتٍ زائفة، ولا نبتعد عن المرام الذي رسمه الأسلاف.
نحن نسعى، يا أخي، أن نشدّ خيوط الصبيب، نغزل من نور اللقاء صفو الأيام، ونزرع في ليل الهجوع أملًا يغني القلب أنين الصبح. لكننا نشعر بفعل فاعل، كأنه خيالٌ يربك خيوط الوصل، يصم آذان الأزل عن آهاتنا، حتى أنين البكاء يغدو صدى طيفٍ يذوي في الصمت.
يا ليتنا نسمع من أسرار “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي”، لكن صوتنا يغدو سحابًا لا يُرى، كأن الأفق يغلق نافذته على نداء القلوب. نرتجي أن تطوف الروح، باحثةً عن ضياءٍ لا يغيب، فتبث صداه في أروقة الوجد، وتُحيي ما خمد من الذكر.
نرتقب أن يكون الحضور نورًا لا يغيب، لا يأبه لأعاصير التعتيم، فالحق ينبض في كل ذرة، ويحيا في الفقر والهوى. نسأل ربّ السماوات أن يُطهّر خيوطنا من غبار الحجب، ويصون صبيبنا من خراب الغيرات، لنسمع في دفء الحضرة صدًى يُحيي القلوب ويزيد الروح توهجًا.
تأملته بعين المتفهم، وقلت له: احمد الله أن في المغرب أمير المؤمنين، ذلك الحامي الأوفى لحمى الملة والدين، القائم على صيانة الروح والقيم، الساهر على أمن الأرض وأمن الأرواح. هو الذي يسمع ويرى بعد الله عز وجل، لا يغفل، ولا يترك أحدًا يعبث بخيوط الإيمان أويعكر صفاء القلب. فلا تسمح لنفسك أن تسمع لمن يغريك بشتات، أو يزرع فيك الشك، فهو أمانة الأمة ودرعها في زمن الفتن.
يا أخي، اجمع شملك، واعقد في قلبك عهدًا لا ينكسر، رسالةً صادقة تكتبها لنفسك كنورٍ تهتدي به، وتسخط به على كل مكدر. اجعل هذه الوصية جسرًا توصل به نفسك إلى موطن السكينة، واحتفظ بخيوط ذبذباتك نقية، صافية، يحرسها تلاؤمٌ مع الحكمة الربانية التي تجسدت في من حملوا الأمانة وصانوا السر الشريف.
إن أمير المؤمنين في المغرب، بحكمته وروحه المتجددة، يسهر على أمن الأمة وطمأنينة قلوبها، متصديًا لكل ما يصرفها عن الطريق، محافظًا على الصلة بين العبد وربه، رابطًا بين الماضي والحاضر بمجد النبوة وضياء العدل. هذه الحقيقة تعطيك قوةً وعزاء، فتتذكر أن فيك نور المعارف، وروح الذكر، ومفتاح العبور إلى الدرجات العليا.
أما الآن، فاشغل قلبك بما ينفع، فما أحوجنا إلى إحياء ذكرى مولد خير البرية، سيد الأنبياء، محمد صلى الله عليه وسلم، فتغدو هذه الذكرى نبراس حياة، تجدّد الرجاء وتزرع المحبة. هي دعوة إلى التأمل، والعودة إلى جوهر الإيمان، الذي به شفاءٌ لكل مرضى الروح، ودواءٌ لكل مضطرب.
هذه الرسالة ليست لك وحدك، بل لجميع المغاربة، الذين يقتفون أثر شيخهم ووارث السر، الذين ينتظرون من أمير المؤمنين الأمان والضياء، ومن صلتهم به الارتقاء في درجات الوعي والانتماء الحقيقي إلى الأرض التي تغنى بها الأنبياء بالعرفان.
فلنرفع أيادينا بدعاء أن يحفظ الله بلادنا وقيادتها، ويقوي صلتنا بهذا المشرب النقي، وينير لنا طريق الحياة بالنور الذي لا يغيب. فكل ذكرى نعيشها من ذكرى مولد خير البرية، هي نافذةٌ على الله، نطل منها بكامل سعادتنا وسلامنا، فلا شيء أعظم من الرجوع إلى النبوة في زمنٍ تزدهر فيه الفتن وتكثر فيه الأهواء.
هذه الوصية، يا أخي، اجعلها نبراسًا لك، وصدِّق أن السلام الروحي الحقيقي هو من خلال تقوية الصلة، وبتعميق الانتماء إلى هذه الأرض المباركة، التي بها أمير المؤمنين، الحامي والمهيب، خير سند لنا وحصن منيع، يظل ساهرًا وواقفًا، لا يكل ولا يمل، حتى يظل العدل نورًا والدين رايةً لا تنكسر.