إبراهيم الوثيقي
لا يصل الإنسان إلى درجة الإبداع إلا بحضور حس جمالي وإبداعي مرهف يغمر ذات المبدع. الإبداع فن لا تُصقل خطاه إلا إذا عرف الإنسان قدره ومبتغاه. هناك من يتقمص دور المبدع فقط لكسب دريهمات أو لتحقيق شهرة جماهيرية، وامتلاك اسم “المبدع الفنان” الذي أصبح متداولًا بكثرة اليوم. لكن قلّة قليلة هي من تستحق هذا اللقب عن جدارة.
متى يمكننا أن نحكم على ذاتية المبدع؟ وما هي السمات والخصائص التي تميز شخصيته؟ ومتى نقول عن عمل ما إنه إبداع حقيقي أو مجرد تسويق للذات؟
هذه الأسئلة تدفعنا للتأمل في المعنى الحقيقي للإبداع. فهل الإبداع تجلٍّ وتمظهر يجذب رؤى الجمهور عبر الموسيقى، النحت، الرسم، الطرب، البناء وغيرها؟ وإلى أي مدى تنعكس ذاتية المبدع على أعماله؟
لا يمكن حصر آراء الباحثين حول مفهوم الإبداع أو “الباراديغم” الذي يحيط به، إذ تتباين التصورات الثقافية، الفلسفية، والمجتمعية باختلاف التنشئة الاجتماعية لكل فرد وموقعه الجغرافي، فضلًا عن أيديولوجياته وتصوراته الذاتية والمجتمعية. هذه العوامل مجتمعة تشكل ذاتية المبدع وتجعله مختلفًا عن غيره.
قراءة الإبداع من زوايا مختلفة تحددها معايير متنوعة. فهناك من يربط إبداع المبدع بأصله الإثني أو انتمائه العرقي، ما يؤدي إلى طغيان العصبية على تقييم العمل الفني، وإلى تغييب الذاتية الحقيقية للمبدع لصالح الجماعة.
ومن جهة أخرى، هناك من يحصر الإبداع في كل ما هو مرئي وملاحظ، فيصدر أحكامًا متسرعة قد تكون خاطئة، وتستهدف ذاتية المبدع ومرجعيته الثقافية والفكرية. هذه التصورات السطحية تغيب عنها التحليل والتصنيف بين الإبداع وذاتية المبدع.
أما من يتناول الإبداع من منظور تاريخي، فإنه ينظر إليه كتجسيد لكل ما هو قديم ويحتفي بالماضي عبر الحفاظ على التراث المادي وغير المادي. في هذه الحالة، ينتصر الإبداع على ذاتية المبدع، حيث يصبح الهدف ربحيًا مشابهًا لتسويق المنتجات المادية، ما يحول الإبداع إلى منتج موسمي.
إذن، متى يمكننا أن نقرن ذاتية المبدع بإبداعه؟
إن ما يحدد أي إبداع حقيقي هو القدرة، المهارة، التجديد، والدقة، مع إضافة معايير الجودة والإتقان. هذه المعايير تتجسد من خلال ذاتية المبدع التي تحمل صفات وخصائص فريدة. فالمبدع الحقيقي يبقى وفيًا لقيمه ومبادئه، ويضحي من أجلها مهما كان الثمن.
إذا عدنا للتاريخ، نجد أسماء مثل بيكاسو ونيتشه وغيرهم ممن أبدعوا في مجالاتهم ولم يكونوا يدركون تمامًا أثر أعمالهم عبر الزمن. لقد جعلوا من ذاتهم جزءًا لا يتجزأ من إبداعاتهم، وظلوا يعانقونها طوال حياتهم كالأم التي تعانق طفلها.
مع عصر العولمة وتطور التكنولوجيا، أصبح الإبداع يحمل معانٍ مختزلة أحيانًا ومنمطة أحيانًا أخرى، تشوه جوهره الصافي. وهكذا، انقسم المبدعون إلى صنفين:
صنف محافظ بقي وفيًا لنمط إبداعه، ولم ينسق وراء التيار الإعلامي الافتراضي، فحافظ بذلك على ذاتيته واستمر إبداعه حاضرًا على مر الزمن.
صنف آخر انجرف خلف الركب الليبرالي الذي فصل بين ذاتية المبدع وإبداعه، مما جعل الذوق العام للمتلقي مشوشًا، حيث غابت الذاتية عن الإبداع، وغابت الأعمال مع غياب أصحابها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21445