
عبده حقي
لطالما توهمت الجزائر نفسها رائدة المدافعين عن القضايا الدولية والشعوب المقهورة في العالم الثالث . فمن أفريقيا إلى أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، أثار سخاؤها المالي تساؤلات بل شبهات حول ما إذا كانت هذه الاستراتيجية تمثل حنكة دبلوماسية أم مقامرة مكلفة للدولة وللشعب على حد سواء.
إن مفهوم دبلوماسية الشيكات على بياض، حيث يتم منح الدعم المالي والمادي الهائل دون متابعة أو مساءلة واضحة، ليس جديدة ولا حصرية للنظام الجزائري. ومع ذلك، فقد صقلته إلى دور المناورة ، باستخدامه كأداة للتأثير والشرعية والموقع الجيوسياسي.
فقد شكل دعم الجزائر لجبهة البوليساريو في نزاع الصحراء المغربية مثالاً بارزاً على ذلك. حيث أسفرت خمسة عقود من الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي عن انهزام على جميع المستويات نحو إقامة كيان صحراوي مستقل . وفي الوقت نفسه، لا يزال المجتمع الدولي غير مبال إلى حد كبير بمطالب الانفصاليين، في حين عزز المغرب سيطرته التاريخية المشروعة على المنطقة، وضمن الاعتراف من قِبَل اللاعبين الدوليين الرئيسيين، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا وإسبانيا والدانمارك ..إلخ ويثير موقف الجزائر الثابت هذا ، على الرغم من الرياح الجيوسياسية المتغيرة، السؤال التالي: إلى متى ستظل دولة الكابرانات تتمرغ في هذا المستنقع الدبلوماسي الوضيع؟
بعيدا عن شمال أفريقيا، امتدت دبلوماسية الشيكات على بياض الجزائرية إلى منطقة الساحل، حيث سعت إلى وضع نفسها كقوة لترسيخ الاستقرار هناك . وقد قدمت بشكل متكرر المساعدات المالية والتدريبات العسكرية والوساطة الدبلوماسية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ومع ذلك، لا يزال عدم الاستقرار قائما في هذه الأقاليم ، وقد تحولت بعض الشيكات من الجزائر، وخاصة في مالي، في بعض الأحيان نحو حلفاء آخرين، بما في ذلك مجموعة فاغنر الروسية. ويؤكد هذا التحول مدى خطر الدعم اللامشروط ــ فالتحالفات غالبا ما تكون معاملاتية، ومما لاشك فيه لن يظل المستفيدون اليوم من المال الجزائري مخلصين لنظام العسكر غدا.
ولكن ما الذي يدفع الجزائر إلى الاستمرار في هذا المنهج الضليل ؟ إن الاتحاد السوفييتي كان ينفق المليارات على حلفائه الأيديولوجيين في مختلف أنحاء العالم، ولكنه في وقت ما رأى أن إمبراطوريته الشيوعية تنهار تحت وطأة الإنفاق من دون عائدات استراتيجية إيجابية…
إلى جانب العامل الإيديولوجي، هناك دوافع اقتصادية واستراتيجية. فمن خلال تمويل مجموعات إرهابية وحكومات فاشلة ، تعمل الجزائر على تعزيز التبعيات الإقليمية التي تحاول تعميق نفوذها. ويمكن للدعم المالي أن يؤمن الأصوات الدبلوماسية في المنظمات الدولية والإفريقية بالخصوص ، ويدعم الصراعات بالوكالة التي تنال من ثقل بعض المنافسين، كما تقدم الجزائر كلاعب لا غنى عنه في الجغرافيا السياسية في شمال أفريقيا بل وأفريقيا برمتها. بالإضافة إلى ذلك، قد يخدم هذا السخاء “البترولي” أغراضا داخلية أخرى . في بلد حيث غالبًا ما تغذي المظالم الاقتصادية السخط الشعبي ، تستخدم الطغمة الحاكمة السياسة الخارجية لتعزيز شرعيتها ، كمدافع رئيسي عن الأمم المضطهدة.
ومع ذلك، فإن تكلفة هذه الاستراتيجية تتزايد في ظل غياب حكم ديموقراطي يربط المسؤولية بالمحاسبة . فعلى الصعيد الداخلي، تعاني الجزائر من ضربات ضعف اقتصادي، بما في ذلك الاعتماد المفرط على الهيدروكربونات والافتقار إلى التنوع الاقتصادي البنيوي. إن التحولات العالمية الأخيرة في أسواق الطاقة، والتي تفاقمت بسبب تقلب أسعار النفط والتركيز العالمي المتزايد على الطاقة المتجددة، تشكل مخاطر مالية كبيرة.
ما مدى تكريس هذا السخاء عندما يظل اقتصاد الجزائر هشًا ؟ وعلى عكس دول الخليج التي تمتلك صناديق ثروة سيادية ضخمة، تفتقر الجزائر إلى الدعامة المالية لتمويل الالتزامات الإيديولوجية إلى أجل غير مسمى دون عواقب.
بالإضافة إلى ذلك، إن الجغرافيا السياسية العالمية تتغير مع مطلع كل يوم حيث إن صعود التعددية القطبية، مع توسع تأثير قوى مثل الصين وروسيا وتركيا لنفوذها، يجعل الجزائر أكثر عرضة للانهيار الوشيك والحتمي حسب العديد من الخبراء .
إن محاولة هيمنة الجزائر على أفريقيا بسلاح الشيكات على بياض تزيد من تعقيد قدرتها على الحفاظ على دورها كقوة إقليمية. فالكثير من الدول التي استفادت تاريخيا من الدعم المالي الجزائري تتوفر اليوم على راعين بدلاء يتمتعون بالنجاعة السياسية والقوة الضاربة الحقيقية وفي طليعتهم المملكة المغربية التي حققت على أرض الواقع مشاريع اقتصادية واجتماعية وخدماتية في الكثير من البلدان الإفريقية كموريتانيا والسينغال وساحل العاج ..إلخ
ولعل السؤال الأكثر إلحاحا هو ما إذا كانت دبلوماسية الشيكات على بياض التي تنتهجها الجزائر سوف ترتفع أرقامها في المستقبل أم أن الدولة سوف تتعقل وتلجأ إلى صرفها في برامج إنمائية داخلية .
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23636