دفاع السلطان سيدي محمد بن عبد الله عن الجزائريين

دينبريس
دراسات وبحوث
دينبريس15 فبراير 2025آخر تحديث : السبت 15 فبراير 2025 - 12:27 مساءً
دفاع السلطان سيدي محمد بن عبد الله عن الجزائريين

الزبير مهداد
كانت رابطة الإسلامية عاملا هاما محددا للسياسة الخارجية للمغرب خلال حكم الدولة العلوية الشريفة، ولا ينسى الجزائريون السلطان المولى إسماعيل العلوي الذي أعرب عن تضامنه معهم، إثر احتلال الإسبان لثغر وهران، فأرسل كتيبة من جيش البخاري، للمشاركة في تحريرها، والمرابطة بجوارها، لمنع أي تسوع إسباني في التراب الجزائري. ومن هذه الكتيبة التي تبقت هناك نشأت من نسلهم قبيلتان ما زالتا قائمتين هناك.

أما خلال فترة حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790)، الذي عاصر اشتداد الأزمات على البلاد الإسلامية، فقد تطلبت من المغرب، التعبير عن سلوكه التضامني والتزامه الأخلاقي تجاه محيطه المغاربي والإسلامي.

استفاد سيدي محمد بن عبد الله من المتغيرات السياسية العالمية فأنضجت تجاربه السياسية، كالثورة الفرنسية، واستقلال أمريكا، واحتلال إنجلترا لكندا. فقد كانت سياسته الخارجية تتجه في اتجاهين متوازيين: الاتجاه الإسلامي من جهة، والاتجاه الغربي من جهة أخرى. فأعرب عن تمسكه بحماية حقوق المسلمين والتضامن معهم، كما بنى علاقات ديبلوماسية متينة مع عدة دول غربية بغية إحلال المغرب مكانة دولية تناسب موقعه الاستراتيجي، وتاريخه العريق.

كانت البلاد الإسلامية خاضعة للنفوذ التركي العثماني، الذي شمل كل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، باستثناء المغرب الأقصى الذي ظل دوما محافظا على استقلاله وسيادته. واعتمد السلطان في علاقته بالدولة التركية سياسة الانفتاح والتعاون والتضامن معها في حروبها مع خصومها، وفي الوقت نفسه، تحمل مسؤولية الدفاع عن مصالح المواطنين في إيالة الجزائر، مراعاة لأواصر العلاقات التاريخية والاجتماعية التي تربطهم بإخوتهم المغاربة، واستجابة لملتمسات التدخل التي كان يتلقاها السلطان منهم لحماية حقهم في معاملة تليق بهم، وتضمن لهم الكرامة والأمن، في مواجهة تعسفات رجال السلطة الأتراك الذين كانوا لا يتورعون عن الاستبداد والتعسف عليهم.

وفي المقالة التالية، استعراض موجز لبعض جهود السلطان سيدي محمد بن عبد الله لحماية المواطنين الجزائريين والدفاع عنهم.

حماية الجزائريين من تعسف الأتراك
إن المتمعن في هرم القوة في المجتمع الجزائري، يلاحظ على رأسه الأقلية التركية الحاكمة التي استأثرت بمقاليد الحكم والصناعات الكبرى، واستحوذت على مليون ونصف مليون هكتار من الملكية العقارية، إلى جانب ما تدر عليها عوائد الضرائب والتجارة، في حين ظل الجزائريون يعانون تقهقرا اقتصاديا واضمحلالا اجتماعيا، واكبه سوء الأحوال الصحية والمعاشية، وانكماشا عمرانيا طيلة النصف الثاني من القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر، بعد ذلك ساءت الأوضاع الاقتصادية، وأقفرت الأرياف والمدن من سكانها، وتكاثرت الأمراض والأوبئة الفتاكة، ما أثر سلبا على حالة السكان الصحية والمعاشية، وترك آثارا سيئة في أوضاعهم الاجتماعية.

عرفت فترة الوجود العثماني وقوف السلاطين المغاربة العلويين إلى جانب الجزائريين، الذين يفرون من بطش الاحتلال العثماني ومن المضايقات التي يتعرضون لها، حسب كتاب “الابتسام عن دولة ابن هشام”، الذي يقول فيه مؤلفه أبو العلاء إدريس: (… وجاؤوا إلى داخل المغرب فانتشروا في جميع بلاد المغرب، وأكثرهم كان في فاس، وجاء معهم بنو عامر الذين كانوا بين تلمسان ووهران، أخلوا بلادهم فرارا من جور الأتراك.. ومدوا فيهم يد النهب والاغتصاب فاستجاروا بأمير المؤمنين أبي الربيع، وبايعوه).

وتشهد العديد من الأحداث التاريخية على المعاملة الحسنة وتقديم يد العون من قبل السلاطين العلويين لفائدة الجزائريين الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد في العهد العثماني.

كان أوجاق الجزائر لا يتورعون عن التنكيل بالمواطنين، والانتقام منهم كلما أبدوا تقربا من المغرب وسلطانه. وهذا ما أكده السفير التركي العالم إسماعيل أفندي الذي انتدبه السلطان التركي عام 1785م، للتقصي في علاقات أوجاق الجزائر الأتراك بالمغرب.

أكد السفير أنه نظرا لاتفاق الرأي على تجني الحامية العثمانية في الجزائر على السكان المحليين، ونظرا لأن القبائل المجاورة للجزائر ما تنفك تتطارح، شاكية لحاكم المغرب من سوء المعاملة من طرف أهل الوجاقات، ونظرا لأن ظلم العثمانيين لمن يقع تحت نفوذهم أمر يمجه العقل وينهى عنه الشرع، فإنه أي إسماعيل أفندي يحذر اسطنبول من مغبة التغاضي عن هذه التصرفات، مذكرا بأن مركز السلطان المغربي قوي جدا لدى الجزائريين، وأن باستطاعته أن يهدد الوجود العثماني فيها، إذا لم يُثْنِ الباب العالي حكامها عن تَهَوُّرِهم ورفع الظلم عن العرب، ويضيف السفير إسماعيل، أن الأمراء سواء في تونس وطرابلس يضمرون التقدير لملك المغرب الذي يتمتع بسمعة طيبة وذكر جميل في الحرمين الشريفين، وفي الحجاز ونجد بصفة عامة واليمن ومصر. ويتوجه السفير بالنصح للباب العالي بأن يتدخل في الجزائر لإلزام حكامها بمهادنة المغرب ومسالمته، بدل استفزازه.

تحرير وفك أسر الجزائريين
أولى السلطان سيدي محمد بن عبد الله عناية خاصة لافتداء الأسرى. وكان افتداء الأسرى عاملا محركا للديبلوماسية المغربية نحو أوروبا والعالم الإسلامي على السواء، وخصص السلطان له مبالغ مالية كبيرة، الأمر الذي أظهر السلطان بمظهر المتضامن مع إخوانه في الدين، والساعي إلى خدمة الإسلام والمسلمين.

كان السلطان يشمل بعنايته الأسرى من مواطنيه المغاربة، وكذا الجزائريين أيضا الذين أهملت تحريرهم السلطات التركية، كان السلطان محمد بن عبد الله يعاتب السلطان العثماني سليمان القانوني، لتفريطه في الأسرى الجزائريين، هذا مدون تاريخيا في المكتبة الوطنية بالسويد وفي الكونغريس. كما ذكر أبو القاسم الزياني دون في كتابه “الروضة السليمانية”، أن حكام الجزائر امتنعوا من افتداء أسراهم، والذي قام بافتدائهم هو السلطان المغربي سيدي محمد بن عبد الله.

بعث السلطان سنة 1766م كاتبه أحمد بن المهدي الغزال سفيرا إلى ملك إسبانيا كارلوس الثالث ليفاوضه على تحرير الأسرى، فنجح في تليين الموقف الإسباني المتشدد، وتم إطلاق سراح عدد منهم، وتقديرا لمهاراته التفاوضية، طلب منه الملك الإسباني أن يتوسط له سلطان المغرب لدى والي الجزائر ليتبادل معه الأسرى. وتلك كانت مهمة عسيرة نجح السفير الغزال في حلها، فأشرف على عملية تبادل الأسرى بمرسى الجزائر، حيث أرست مراكب إسبانية وأنزل منها أسرى المسلمين ألفا وستمائة ونيفا، فأخرج أهل الجزائر من أسرى النصارى مثلهم.

وفي سنة 1779م بعث السلطان كاتبه الخاص ابن عثمان المكناسي سفيرا لإسبانيا، ليواصل ما بدأه سابقه، فوقف السفير على أحوال الأسرى، في اشقوبية وقرطاجنة، ووجدهم يعيشون ظروفا قاسية سيئة، فوزع عليهم الصدقات توسعة عليهم، وتوسط في إطلاق سراح اثنين وعشرين ومائة أسير جزائري، تخير منهم الصبيان الذين يخشى عليهم من الفتنة في الدين، والشيوخ العاجزين، وذوي الأعذار، ومن طال مكثه في الأسر. وبمدينة سبتة السليبة سلم له حاكمها ثلاثة وعشرين أسيرا مسلما.

كما توجه السفير عام 1781 أيضا إلى جزيرتي صقلية ومالطا ومملكة نابولي، من أجل افتداء أسرى المسلمين المنتمين إلى مختلف الدول الإسلامية المتوسطية، ورغم العراقيل التي اعترضت إنجاز مهمته الإنسانية فقد تمكن من افتداء ستمائة وثلاثة عشر من أصل ألف وخمسمائة أسير، تم توجيههم إلى مواطنهم بطرابلس وبنغازي وصفاقص وتونس، وتركيا حسب ما ذكرت بعض المصادر.

كما بعث ملك إسبانيا في 1182هـ إلى المولى محمد بن عبد الله، يلتمس منه التوسط مع الجزائر لتبادل الأسرى، فبعث أيضا كاتبـه الغزال في تلك المهمة، ليتولى الأمر بنفسه، واستمر جو العلائق صافيا مع اسبانيا، إلى أن وقع حصار سبتة سنة 1185هـ، غير أن تلك الغيوم ما لبثت أن انجلت بسرعة، وعاد الأمر لما كان عليه.

التأثير الإيجابي لعملية تحرير الأسرى الجزائريين من طرف السلطان، جعلته يحظى بشعبية واسعة، وبتعاطف وولاء الجزائريين، وقد راسلوه كثيرا للتدخل في الإيالة الجزائرية. وعلى الرغم من المشاكل التي ظل حكام الجزائر الأتراك يثيرونها للمغرب، ويلحقون أضرارا جسيمة بمصالح المغرب ومخططاته السياسية والاقتصادية، فقد ظل السلطان المغربي حريصا على النزوع نحو السلم والمهادنة في علاقاته بالحكام الجزائريين الأتراك، وتفادي المعاملة بالمثل، حقنا لدماء المسلمين، ووفاء منه لعلاقات الود والاحترام التي ربطها مع الباب العالي إلى آخر أيامه.

وقد واصل سلاطين الدولة العلوية هذه السياسة التضامنية مع الشعب الجزائري حتى أثناء الاستعمار الفرنسي لهذا البلد الجار، واستمر الدعم حتى حصوله على الاستقلال.
ـــــــــــــــــــ
1 ـ حركات، إبراهيم: المغرب عبر التاريخ، الدار البيضاء، دار الرشاد الحديثة جزء 3، ص 49
2 ـ زمام، نور الدين: السلطة الحاكمة والخيارات التنموية في الجزائر، الدار العربية للكتاب، 2002 ص 16
3 ـ التازي، عبد الهادي: وحدة المغرب العربي من خلال الوثائق الدبلوماسية؛ مجلة دعوة الحق، العدد رقم 278 (مارس 1990) ص 81
4 ـ الناصري، أحمد بن خالد: الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، القاهرة مطبعة بولاق، سنة 1894 الجزء 4، ص 107
5 ـ التر، عزيز سامح: الأتراك العثمانيون في إفريقيا الشمالية (ترجمة: محمود علي ماهر) بيروت، دار النهضة العربية 1989 ص 502

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.