محمد أومليل
اختلف حوله الطوائف الإسلامية بين موافق من قبل أغلبهم (شيعة إمامية وزيدية والبعض من الإباضية)، ورافض (أغلبية أهل السنة وعلى رأسهم الحنابلة، والماتريدية)، ووسطي، مثل (الأشاعرة؛ كلام الله صفة دائمة، والعبارات والألفاظ مخلوقة)، أما موقف الإباضية فيختلف باختلاف الموقع الجغرافي بين موافق ومعارض.
تعمدت أن أختم فصل “الدراسات القرآنية القديمة” بموضوع “معركة خلق القرآن” نظرا لأهميتها من جوانب عدة، على رأسها المسار التاريخي العلمي في تاريخ المسلمين وما عرفه من معركة بين مدرستين؛ مدرسة العقل والرأي، ومدرسة النقل والأثر؛ فكان الانتصار للتوجه الثاني نظرا “للعقل الجمعي” الذي تغلب عليه الأمية والبساطة والتلقين والذهنية البدوية، بخلاف التوجه الأول فهو نخبوي بامتياز حمل لوائه آنذاك المعتزلة لا سيما في عهد المأمون الذي كان له ميول للعلوم والمعارف والفلسفة والأدب والفنون والطب والرياضيات والفلك والجغرافيا مما جعله يؤسس “بيت الحكمة” ويقوم بترجمة الفكر اليوناني إلى اللغة العربية.
تلك النقلة الإبستمولوجية التي قام بها المأمون كانت موازية مع ازدهار عملية التدوين التي بدأت في مستهل القرن الثاني الهجري مع التركيز على ما يندرج ضمن النقل والأثر، في عهد المأمون كان التركيز على ما له علاقة بالنقل والرأي، وعلى رأس ذلك عملية الترجمة ثم الفلسفة والعلوم الكونية..، أفضى ذلك إلى بروز مجموعة علماء في مجالات مختلفة؛ فلسفة، أدب، رياضيات، تصوف، طب، بصريات، فلك..
“معركة خلق القرآن” معركة إبستمولوجية عقدية بدوافع سياسية وبمضمون جدلي بين إشكاليات لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، مثل: القضاء والقدر، الجبر والقدر، الخلق والكسب، الأزلي والمحدث..، بالإضافة هل الإنسان مسير أم مخير..، إلى غير ذلك مما يندرج ضمن علم الكلام.
“نظرية خلق القرآن” تبناها قبل المأمون ومعتزلة عصره عالمان مشهود لهما بالذكاء والنباهة:
– الجعد بن درهم قتل سنة 124 هجرية على يد خالد بن عبد الله القسري كان واليا على العراق، قام بذبحه يوم عيد الأضحى بعد أداء الصلاة بالمسجد!
– الجهم بن صفوان قتل سنة 128.
أما المأمون فقد تبنى “نظرية الخلق” إبان فترة حكمه ما بين سنة 198 و218.
بالإضافة إلى من ناصروه أغلبهم معتزلة على رأسهم القاضي أحمد بن أبي دؤاد.
استمرت المعركة مع أربع خلفاء؛ المأمون، المعتصم، الواثق، المتوكل الذي غير رأيه فناصر أهل النقل والأثر حتى اشتهر بـ”ناصر السنة” وهو عند البعض خلاف ذلك، بل هناك من يصفه بأنه كان ماجنا أو إنه كانت لديه 4000 جارية، وذلك بخلاف المأمون، الذي كان مشهودا له بالعلم والاستقامة وميله للعدل، فهو عموما، أقل من المتوكل ظلما وفجورا.
كانت هناك دوافع سياسية دفعته لذلك الاختيار بحكم غلبة أتباع النقل والأثر، بحيث بدأت شعلة المعتزلة تنطفئ بحكم انتشار مظلومية الإمام أحمد وما صاحبها من ذكر خوارق وكرامات صدرت عنه في السجن.
ممن امتحنوا في “معركة خلق القرآن”، نذكر الإمام أحمد بن حنبل بحكم تكوينه التقليدي وجهله بالفلسفة والفكر اليوناني وبكل ما يندرج ضمن العقل؛ لذا كان معتمدا على رفضه للنظرية الجديدة بالأدلة النقلية، فقط، التي تؤكد أن القرآن أزلي وليس محدثا. بخلاف أدلة المعتزلة مزدوجة؛ نقلية وعقلية.
القول بين “خلق القرآن” و”أزلية القرآن”، شبيه بالقول الشهير الذي جاء فيه “هل القرآن توقيفي أم توفيقي؟”.
فكما أن القرآن تمت صياغته توقيفيا وتوفيقيا، كذلك القرآن منه ما هو أزلي مما يندرج ضمن الرسالة الأزلية، مثل أصول الإيمان والقيم الأخلاقية والحلال والحرام والوصايا العشر مما هو مشترك بين جميع الكتب المقدسة، بالإضافة إلى السنن الناظمة للآفاق والأنفس. كل ذلك أزلي. ما دون ذلك مما يندرج ضمن التاريخ والقصص والغزوات والأحداث والتساؤلات والحوارات والشكايات والاعتراضات، فالأمر هنا يندرج ضمن ما هو محدث.
الإشكالية، بشكل عام، غير رهينة بإما.. أو إما..، كما هو معلوم في المنطق الصوري الذي تم تجاوز الكثير من قوانينه، خاصة في ما يتعلق بقانون الهوية، قانون عدم التناقض، قانون الثالث المرفوع. ومما ينبغي معرفته وأخذه بعين الاعتبار؛ أن لكل زمن سقفه المعرفي الذي لا يمكن تجاوزه إلا في حدود قلة من الناس، بحكم عبقريتهم، قد يكون سقفهم المعرفي تجاوز مستوى “العقل الجمعي”.
لا سيما، في عهد المعتمد، بشكل عام، هو النقل والأثر، مقابل تبخيس العقل والرأي.
عموما، كل ما هو جديد دوما يثير الصدمة والدهشة والارتباك والجدل وقد يصل الأمر إلى التكفير والقتل.
في ما له علاقة بجمع القرآن ونسخه؛ كان محل خلاف بين كبار الصحابة، في عهد أبي بكر، وفي عهد عثمان، بل حتى في بداية القرن العشرين حين قرر الملك فؤاد بطبع القرآن، لقي اعتراضا قويا من قبل علماء الدين، وبعد نقاش طويل توج بالموافقة من قبل علماء الدين!
خلاصة القول، إشكاليات القضاء والقدر، الجبر والقدر، الخلق والكسب، الأزلي والمحدث، مسير ومخير..، كل ذلك وغيره مما يندرج ضمن علم الكلام سوء فهمه؛ مرده إلى الجهل بالسنن الربانية الناظمة للآفاق والأنفس التي تفتل من خلال حبلين؛ حبل الخالق وحبل الخلق.
نحن أبناء الألفية الثالثة، عصر الثورة العلمية والرقمية، جدير بنا أن نمتلك فكرا ومنهجا مركبان، كل ما هو أحادي لم يعد لائقا ولا مناسبا لعصرنا المتميز بالتطور العلمي المضطرد.
ينبغي أن ننفتح على جميع مصادر المعرفة بدون استثناء النقلية والعقلية، المثالية والمادية، الأسطورة والميتافيزيقا، المحسوسة والمجردة..، إلى غير ذلك من مصادر المعرفة مع الأخذ والرد وفق الاختبار العلمي.
ذلك ما يوصي به العقلاء من أهل العلم قديما وحديثا عربا وعجما، من ضمنهم ابن رشد وابن خلدون، وكارل بوبر وإدغار موران.