عمان/ الأردن:
أبّنت الأديبة د. سناء الشّعلان أمّها الأديبة الرّاحلة والأمّ المثالية نعيمة المشايخ في كلمة ألقتها في جمعية السّماعنة (أهالي بيت نتيف) في العاصمة الأردنيّة عمان، وذلك في معرض كلمتها عن نساء قرية بيت نتيف التي تنتمي أمّها وهي إليهنّ، وذلك بمناسبة مهرجان العودة إلى فلسطين الذي أقامته الجمعيّة ممثّلة برئيسها يوسف أحمد المشايخ، وبرعاية دولة رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصريّ.
وجاءت هذه الكلمة في الذّكرى الأربعين لرحيل نعيمة المشايخ التي انتقلت إلى جوار ربّها الرّحيم فجر الأحد الموافق 12/9/2021 ، وقد قالت د. سناء الشّعلان في كلمتها بحضور رئيس الجمعيّة وحشد غفير من أهالي بيت نتيف وضيوفهم: ” السّادة والسّيدات الحضور من أهالي بيت نتيف وضيوفهم الأكارم، السّيد يوسف أحمد المشايخ رئيس جمعية السّماعنة المقدّر، السّادة أسرة وإدارة الجمعيّة المحترمين، السّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه، والخيرُ والبركةُ فيما اجتمعنا عليه وله؛ وهو الأمُّ الكبيرةُ فلسطين، والأمّهاتُ الصّغيرات الطّاهرة نساء (بيت نتيف).
يسعدني أن أحظى بأن أمثّل نساء (بيت نتيف) في كلمتهنّ في هذا المساء، وهو شرفٌ عظيمٌ لي أن أنطق بألسنة الطّاهراتِ العفيفاتِ الصّابراتِ المرابطاتِ على بوّابات الحياة بكلّ إخلاصٍ ونضالٍ وحبٍّ، ولي أن أقول بكلّ فخرٍ بهنّ أنّهنّ مَنْ حفظن جيلاً بعد جيل من أبناءِ الهجرةِ والضّيمِ والضّياعِ والتّشرّدِ في منافي الأرض كي لا ينقرض اسم (بيت نتّيف)، وهنّ مَنْ حملن الأملَ بالعودةِ، وأرضعنه لأبنائهنّ وبناتهنّ وهنّ يكابدنَ ضنكَ الحياةِ القاسيةِ عليهنّ كي ينقذن أجيالاً كاملةً من الضّياعِ والموتِ والجهلِ والرّدةِ عن الأرضِ والوطنِ والرّسالةِ.
امرأةُ (بيت نتيف) هي مَنْ شدّتْ عضدَ رجلها أكان أباً أم زوجاً أم أخاً أم ابناً، وهي مَنْ فتحتْ حضنَها الطّاهرَ كي ترّبي الأبناءَ والبناتِ بأقلِّ مقدّراتِ الحياةِ، وتحدّت الظّروفَ الطّاحنةَ لتقول للدّنيا ومَنْ فيها: هذا سعي فيها، وأنا فخورةٌ به.
امرأةُ (بيت نتيف) هي مَنْ تحملُ أعباءَ الحياةِ، وتلوّنُ أسرارَها، وتبتسمُ حتى وهي حزينةٌ كسيرةٌ، وترفضُ أن تستسلمَ، وترسمُ صورةَ الأمِّ الكبرى فلسطين في حنايا ثوبها الفلسطينيّ المطرّزِ بالحريرِ والحزنِ والانتظارِ، وهي مَنْ خرجتْ من الشّتات بضمّة من الرّياحين من الأبناءِ والبناتِ المفاخرِ الذين أحسنتْ تربيتهم وتعليمهم، وهي مَنْ تجيدُ الابتسامَ والزّغاريدَ على الرّغم من الجوعِ والحرمانِ، وهي مَنْ تعجنُ الوجعَ ليكونَ درباً جديداً لها ولأهلهِا ولأسرتهِا.
أزعم أنّني أحفظُ آلافَ الحكاياتِ المشّرفةَ عن عظمةِ نساءِ (بيت نتيف)، وهيٌ حكاياتٌ صنعنها بِرّاً بضمائرهنّ وعقائدهنّ في الحياة،ِ لا لأجل التّفاخرِ بها، إلاّ أنّها حكاياتٌ مفاخرُ، وأنا أفاخرُ بها أمامَ اللهِ وخلقهِ.
مَنْ فينا لا يحفظُ قصّةَ نضالِ جدّتِه وأمِه وخالتِه وعمّتِه وابنتِه؟ من فينا لا يفخر عندما ينادونه باسم أمه الماجدة؟ من فينا لم تحنُّ عليه جدّةٌ؟ ولم تقبّله عمّةٌ؟ ولم تدعُ له أمٌّ وخالةٌ؟ ولم تنتظر أوبته أختٌ وزوجةٌ وابنةٌ وبناتُ عمّ وبناتُ خال؟!
في هذا المساءِ الطّيبِ بكم أريدُ أن أنقلَ لكنّ ولكم تحيّاتِ وسلامَ امرأةِ نتّيفيّةٍ طاهرةٍ ترافقني الآن عن يميني، وأحسُّ برائحتِها الطّيبةِ تلفحُ يساري، إنّها أمّي الطّاهرةُ الصّديّقةُ نعيمة عبد الفتاح إبراهيم المشايخ التي رحلتْ قبل أربعين يوماً إلى جوار ربّها بعد صراعٍ شجاعٍ مع مرض السّرطان ومع نائباتِ الدّهر وصعوباتِ الحياةِ التي ما حنتْ عزيمتها، وما كسرتْ كبريائها، وما خفضتْ ملمتراً واحداً من شموخ أنفها الأبيّ المتعالي على الحزن والضعف والذّلّ والبوح.
أنا د. سناء بنت نعيمة المشايخ، وأمّي الزّكيّة الوردة مثالٌ للمرأةِ النّتفيّةِ الطّيبةِ الزّكيةِ، فأينما حضرت النّيفيّةُ الطّاهرةُ حضرتْ أمّي، كم كانتْ أمّي ستفرح لو كانت معنا اليوم بجسدها لا بروحها فقط! إذن لسلّمتْ عليكنّ واحدة فواحدة بقُبَلَها الطّيبةِ الفوّاحةِ بالمحبّةِ والإخلاصِ، ولسألتْ عن أحوالِ الأهلِ والولدانِ، وهي مَنْ تعرف أفراد (بيت نتيف) واحداً واحداً، وتحفظ سلائلهَم وحكاياتِهم، وتعرفُ أسرارَهم، وتفخر بهم جميعاً، وهي مَنْ اعتادتْ على أن تبحث عنهم في الوجوهِ والأسماءِ والأماكنِ بسؤالهم المكرور اللاّهث: أنتَ من أيّ بلد يا بنيّ؟
أمّي نعيمة هي امرأةٌ نتفيّةٌ أصيلةٌ تضحكَ، ولو كان الحزنُ يغشى قلبهَا الطّيبَ، ترّحب بالأهلِ والزّوارِ ولو كان وفاضُهَا خالٍ، تجودُ بحبّها وعونِها وتعاطفِها واهتمامِها وحضورِها ولو كان الضّعفُ يتعاظمُ عليها، والمرضُ يعضُّها، تخفي أسرارَ الحزنِ والقطيعةِ والخذلانِ وخيبةِ الأملِ، وتزعمُ أنّها في خيرٍ، وتدعو لمن قطعها ووصلها بكلّ خير، وتتفاخرُ بمن هو في رداء التّفاخر أو دونه، أمّي نتفيّة حقيقيّةٌ أصيلةٌ.
أتعرفون كيف تبكي النّتفيّة عندما تحزنُ وتنكسرُ؟ هي تبكي على استحياءٍ، وتمسح دمعتها من المحجرين قبل أن تدركها أيّ عينين، وتزعمُ أنّها في خيرٍ.
هكذا تعيشُ النتفيّة، وتموتُ، رافعةَ الرأسِ ولو كان القلبُ حزيناً، وهكذا رحلتْ أمّي التي رافقتها ثانية فثانية أنا وأخي محمد في رحلةِ صراعِها من المرضِ، لم تبكِ ولا مرّة، ولم تعترضْ أبداً على المرضِ، ولم تزفر أيَّ زفرة احتجاج، ولبّت نداء ربّها هادئة واثقة حنونة صافية الملامح كما عاشتْ كذلك.
أمّي نعيمةُ الشّقراءُ ذاتُ العينين الخضراوين الكريميتن المعطّرةُ النّاصعةُ البياضِ في المحيّا والقلبِ والكلماتِ والسّريرةِ تحضرُ الآنَ كما تحضرُ نساءُ (بيت نتيف) أحياءً كنّ أم راحلاتٍ عن هذهِ الحياةِ الفانيةِ؛ فهنّ انتماءٌ لسلالاتهنّ الماجدةِ، وهنّ مَنْ يحضرنَ مزينات بالشّرفِ والحياءِ والحشمةِ والصّلاحِ، ويلبسنَ الأثوابَ الفلسطينيّةَ الموشّحةَ بالحريرِ المعتّقِ بالصّبرِ والادخارِ والانتظارِ وخيباتِ الأملِ، يخرجنَ أثوابهنَّ الزّاهيةَ وحليهنَّ المدّخرةَ وابتساماتهنَّ الدّائمةَ الخضرةِ، ويلبسنها في الأفراحِ، ويدفنْ أحزانهنَّ في صدورهنِّ الحنونةِ، ويرفعنَ الأيادي سائلاتٍ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يحفظَ الأرضَ والولدَ والأهلَ والبركةَ، وينسين من طيبتهنّ أنْ يدعين لأنفسهنّ.
أمّي من تلكم النّساءِ الصّالحاتِ، بل هي سليلتهنّ، كما أنا سليلة نعيمة عبد الفتاح المشايخ بنت زينب موسى أبو شربي بنت رسمية عقل وصولاً إلى أمّنا حوّاء من النّساءِ الطّيباتِ الصّالحاتِ المحتسباتِ المعطّراتِ، وهنّ أجيالٌ متعاقبةٌ من النّساءِ اللّواتي صدقن الله، فصدقهنّ، وحفظن الله، فحفظهنّ، وأدّين الرّسالة على أتمِّ وجه، ورحلهنّ إلى جوار خالقهنّ معطّراتٍ بالسّيرةِ الصّالحةِ العبقةِ التي نتغشّاها ليلَ نهارَ، وتتغشّانا في سرّنا وعلنيتنا.
أمّي نعيمة زهرةٌ من زهراتِ البلد والحياة، وقلبٌ من قلوب الأمهات الصّالحات، ورضا من رضا، ورحمةٌ من رحمةٍ، ونورٌ من نور، عندما تضحكُ أميّ نعيمة ترى فيها قلوب أمهاتِنا النّتّفيّاتِ، وعندما تحزن تغمرُ الأرضَ أمطاراً صامتةً ملغزةً، وعندما تبذل لا تقبل بأن تبذل أقلَّ من روحها المقدّسة؛ فهي مبذولة على العطاء.
رحلتْ أمّي عن الحياة جسداً، وظلّت بروحها مقيمةً معي، حاضرةَ بي وبمنجزي وفي كلِّ مَنْ أنجبته وربّته وأحسنت إليه، وحاضرةً كذلكَ في حبّات المفتول البلديّ وفي أقراص السّبانخ واللّحم وأطباق المسخّن البلديّ بزيت الزّيتون الفلسطينيّ التي كانت تتنفّن في صنعه، وإطعام النّاس منه.
أمّي حاضرةٌ الآن في هذا المكان الذي طالما عطّرته في حضورها لمناسبات أهلها في السّراء والضّراء، وحاضرةٌ في صوتها الحنون الذي كان يشغل هذا الفضاءـ وهي تسأل عن أحوالها أقاربها وأهل قريتها واحداً تلو الآخر، وحاضرةٌ بنظراتها الحنونة التي تراني بهما أجمل بنت في الدنيا، وترى صورتها منطبعة في عميق عيني ووجيب قلبي الذي يهتف بحبّها، كما هي حاضرة في نجاحي وعلمي وإبداعي وكلِّ ما أنجزتُ وأنجزُ وسأنجز بإذن الله تعالى؛ فكلّ ذلكَ هوَ ببركتها ورعايتها وتضحياتها وتعبّها.
السّلام عليك يا أمي يومَ ولدتِ، ويوم متِ، ويوم تبعثين حيّة من جديد.
هذه أوّل فعاليّة أحضرها في حياتي منذ اعتليتُ سدّة الكلمة وأمّي لا تحضر معي بجسدها وروحها، ولا تجلس في الكرسي الملاصق لمقعدي، وتتأمّلني بملء فخرها وأنا أنطق بالكلمات التي علّمتني أولاها، بعد أن أكونَ قد قرأتُ عليها كلمتي مسبقاً في البيت، وهي مَنْ اعتادتْ على أن تهتف بي ولي: كلمة رائعة، أجمل من (هيك) ما في.
لكن أمّي نعيمة حاضرةٌ اليوم معي بروحها المشرّفة، لا بدّ أنّ أرواحَ حبيباتنا من نساء بيت نتيف تحضر الآن في جمعنا هذا أيضاً، كما تحضرُ نساءٌ طاهراتٌ يشغلن الذّاكرة والمكان والفرح والحزن الخفي في صدورنا ودموعنا التي نداريها بصعوبة وخجل.
بأسمائكم وباسمي وباسم أمّي الصّديقة نعيمة عبد الفتاح إبراهيم المشايخ أسأل اللهَ لكم الفلاح والسّرور والعافية والصّحة ولقاءً لا فراق بعده على أرض وطننا فلسطين”.
رابط تسجيل فيديو للكلمة:
https://youtu.be/wN87IzJmke8
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15808