خلاصات مؤتمر “قراءة النصوص المقدسة وتفسيرها: نحو جيوسياسة التأويل”

23 ديسمبر 2025

رشيد المباركي

اختتمت في العاصمة المغربية الرباط فعاليات المؤتمر الدولي الذي نظمه كرسي جيوسياسة الثقافات والأديان بعنوان “قراءة النصوص المقدسة وتفسيرها: نحو جيوسياسة التأويل”.

وخلصت أشغال المؤتمر إلى عدة نقاط، لعل أهمها أن تفسير النصوص المقدسة – سواء كان القرآن، أو التوراة العبرية، أو الكتاب المقدس المسيحي – ليس مجرد تمرين نظري، وإما يتعلق الأمر بمقام استراتيجي تُختبر فيه قضايا جيوسياسية وأخلاقية بالغة الأهمية.

كما خلُصت الفعاليات نفسها إلى أن إعادة قراءة الكتب المقدسة في ضوء التحديات المعاصرة تعني بالفعل صياغة جزئية للإجابات التي يمكن لمجتمعاتنا تقديمها.

وأظهرت المناقشات أنه اعتمادا على ما إذا تم تفسير آية معينة بطريقة حصرية أو شاملة، يمكن أن تكون العواقب مختلفة جذريا على أرض الواقع: فقد تبرر نفس العبارة المقدسة الحرب المقدسة أو تؤسس للالتزام بالسلام، وتبرر الاضطهاد أو تعزز العدالة الاجتماعية.

كما تم التأكيد مرارا في أكثر من مداخلة على مسؤولية المترجم، حيث ذكر رولاند دوبيرتران مثلا، أن التفسير يجب أن يبرز القيم المشتركة من حب وعدل وكرامة لمواجهة القراءات المتطرفة.

من خلاصات المؤتمر، نذكر أولا الإدراك المتجدد لهذه القدرة الفعّالة للتفسير في المجتمع. وثانيا أنها كانت درسا عابرا للمجالات يظهر من خلاله الخصوبة الهائلة للنهج المتعددة التخصصات والمتعدد الأديان في دراسة المقدس، حيث حاول المؤرخون واللغويون والفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا واللاهوتيون والدبلوماسيون مواجهة طرقهم ومناظيرهم، مقدمين رؤية أكثر دقة وشمولا بكثير مما يمكن أن تقدمه التحليلات الأحادية.

من اللافت كذلك أن نلاحظ مدى إغناء التداخلات بين التخصصات للفهم: فقد أوضحت الفلسفة البرغسونية مفهوما قرآنيا (مداخلة سليمان بشير ديان عن محمد إقبال)، كما سلطت الأنثروبولوجيا الضوء على ممارسات التعاون بين المجتمعات (مداخلة عمر بوم عن الحراس المسلمين لليهودية)، وتأكيد اللغويات السامية على أهمية نقل اللغات (مداخلة محمد المدلاوي)، وغيرها. كما سمحت هذه الحوارات بين التخصصات بالتطرق إلى النصوص المقدسة من مناظير جديدة، بما في ذلك منظور العلم الحديث، ونتيجة لذلك، كانت هناك دعوة لمواصلة هذا النهج من البحث متعدد التخصصات حول الظاهرة الدينية، لأن هناك تكمن روافد المعرفة الجديدة.

بالتوازي، أكّد الطابع بين الأديان للمؤتمر – حيث تحدث المسلمون واليهود والمسيحيون معا عن كتاباتهم المقدسة، بخصوص إمكانية وجود تفسير توافقي بشكل ملموس.

وبعيدا عن تمسك كل متدخل بنصه فقط، شهدنا تفاعلا حقيقيا بين المشاركين، كما أظهر العديد من المتحدثين أن تبادل وجهات النظر يغذي الآفاق، فقد أشار جوزيف مايلا ونجيب جورج عوض، على سبيل المثال، إلى أن فهم منظور الآخر حول المطلق يغني الإيمان الشخصي ويساعد على تفكيك صورة العدو.

كما تمّ تقديم صورة عن قراءات من صلب التراث الإسلامي، تسلط الضوء على مناطق غامضة في الكتاب المقدس (والعكس صحيح)، أو إن التقاليد اليهودية توفر مفاتيح لإعادة قراءة القرآن في روح أوسع (وبالمثل بالعكس).

لقد غذت هذه النقاشات أرضية نظرية مفادها أن الفهم التأويلي يمكن أن يكون أداة للدبلوماسية الدينية موضع التنفيذ، بتعابير يانيس ماهيل. ومن التوصيات المهمة التي تم طرحها ضمنيا زيادة هذا النوع من اللقاءات والمؤسسات التي تعزز الدراسة بين الأديان، من خلال معاهد مختلطة، برامج تبادل بين المدارس الدينية والمعاهد الشرعية، مؤتمرات متنقلة، من قبيل مجموعة الأبحاث الإسلامية ــ المسيحية لعام 1977 التي أشار إليها نكولو فانغا، أو مبادرة “إيمان من أجل الحقوق” ضمن أمثلة ملموسة يمكن تعزيزها.

من الناحية الجيوسياسية أكثر تحديدا، أتاح هذا المؤتمر العلمي طرقا مبتكرة لأخذ العامل الديني في الاعتبار في العلاقات الدولية. وقد لوحظ كثيرا أن الفاعلين الدينيين أصبحوا مرة أخرى لاعبين رئيسيين في المجال العام العالمي. ولم نقتصر المداخلات على تزكية هذا المعطى، بل أظهرت كيف أن التأويل نفسه يشكّل مسار السياسة، وأوضح يانيس ماهيل مثلا أن الطرق التي تقرأ بها البلدان المسلمة القرآن تشكل نماذج حكمها وسياساتها الخارجية. وبالمثل، ذكر كل من كريستوبال لوبيز ورولان دوبيرتران مدى تأثير تفسير الكتاب المقدس عبر التاريخ على أنظمة وأيديولوجيات بأكملها، ومن هنا، تتبلور فكرة جيوسياسة التفسير كنطاق دراسة مستقل، أي تحليل كيفية تداول القراءات المقدسة، وكيفية توظيفها أو محاربتها على الصعيد العالمي.

واضح أننا إزاء وجهة نظر أكاديمية واعدة للغاية، يمكن أن تسلط الضوء على العديد من النزاعات الحالية من منظور جديد، كتلم التي نعينها مع تأثير الانقسامات بين السنة والشيعة في جيوسياسة الشرق الأوسط.

كما أسهم المؤتمر، من خلال تشجيع الحوار بين خبراء من دول واعتقادات مختلفة، في وضع أسس شبكة دولية للخبرة في هذه القضايا. وتضع الأكاديمية الملكية المغربية، من خلال هذه المبادرة، نفسها كقطب لا غنى عنه لهذا التفكير، بما يتماشى مع التقليد الطويل للمملكة في الوساطة الثقافية والدينية.

ولعل أهم درس يجب استخلا‌صه من هذه الأيام الثلاثة هو أن روح التقارب التي سادت، أي التقارب بين التخصصات، بين الأديان، وبين الآفاق الثقافية. ليس للوصول إلى توحيد سطحي أو نسبية بلا محتوى، بل لتوضيح خطوط القوة المشتركة.

وكشفت هذه الخطوط المتقاربة عدة خلاصات، نذكر منها على وجه الخصوص، إبراز القيم المشتركة (الرحمة، محبة الجار، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية، السلام) الموجودة في كل نص مقدس، كما أبرز على سبيل المثال دوبيرتران وماهيل. هذه أرضية أخلاقية عالمية يمكن للجميع الالتقاء عليها دون إلغاء معتقداتهم الخاصة؛ الاعتراف بالحق في الاختلاف ضمن الوحدة، حيث إن جميع الاستعارات الزهرية والكونية المذكورة توضح أنه يمكن للمرء أن يكون ملتزما بشدة بإيمانه بينما يحتفل بالتنوع الذي خلقه الخالق. هذا الموقف من التواضع والاحترام تم اعتباره أساس “الألفة بين الأديان” (بتعبير نكولو فانغا) وشرطا للحوار الحقيقي؛ وأخيرا، التأكيد على مركزية المعرفة والتعليم، مع الدعوة إلى الاشتغال على ثنائية الإيمان والعلم، والدعوة إلى إيقاظ الضمائر، وأهمية رفع مستوى المعرفة المتبادلة.

من بين مخرجات المؤتمر كذلك، التأكيد على أنه لا يمكن أن تكون هناك سلام دائم دون التعرف على الآخر.

أما على الصعيد الأكاديمي، فقد كان الهدف هو متابعة وتوسيع البحوث حول هذه الجغرافيا السياسية للتفسير من خلال رسم خرائط للمدارس التفسيرية، فهم تأثيرها، وتدريب جيل جديد من المتخصصين في عدة حقول علمية، من قبيل العلوم الدينية والسياسية.

في الشق الخاص بالحوار بين الأديان، فإن منظورا ملموسا عنوانه تنظيم منتديات منتظمة يُعلق فيها علماء لاهوت من ديانات مختلفة معا على نصوص تتناول موضوعات الساعة من قبيل قضايا السلام، البيئة، الأخلاقيات البيولوجية، بهدف إنتاج قراءات متقاطعة تساعد في إضافة الطريق لصناع القرار.

وأخيرا، وفي الشق الدبلوماسي، تستحق فكرة الدبلوماسية الروحية أن تتطور مؤسسيا، من خلال التفكير الجماعي على سبيل المثال في تأسيس مجلس استشاري بين الأديان يكون تابعا للأمم المتحدة أو للحكومات، يقدّم تلك التقاليد الروحية بشأن القضايا العالمية الكبرى، خاصة أنه توجد سوابق إيجابية في هذا المضمار.

جدير بالذكر، أن كرسي جيوسياسة الثقاقات والأديان أطلقته أكاديمية المملكة المغربية في فبراير الماضي، ويترأسه الأكاديمي والأنثروبولجي فوزي الصقلي، والذي سبق له أن أكد بأننا إزاء مشروع أكاديمي يطمح إلى الجمع بين الجانب العلمي والأفق التجديدي، في سياق مواجهة مجموعة من التحديات الراهنة.

 

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...