خطبة الجمعة في عهد السماوات المفتوحة: بين الهدي النبوي وخطر التوظيف الإيديولوجي
الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
في زمن السماوات المفتوحة والانفجار التكنولوجي، لم تعد خطبة الجمعة حدثًا محليًا محصورًا داخل جدران المسجد، بل أصبحت صوتًا عابرًا للقارات، يدخل البيوت والشاشات والهواتف الذكية، بلا إذن أو تأشيرة مرور .
هذه النقلة التاريخية جعلت الخطبة المنبرية تتحول من فضاء تقليدي إلى أداة تأثير عالمي، قادرة على زرع السكينة والمحبة والتعايش بين الناس، أو على العكس، إشعال الكراهية والشقاق والعنصرية إن هي أُسيء توظيفها أو استغلالها من قبل دعاة التطرف .
لقد كان المنبر النبوي في عهد الرسول ﷺ مدرسة في التربية والإصلاح الاجتماعي، غايته تهذيب النفوس، وتوجيه المجتمع نحو الرحمة والعدل والتعاون. غير أن المنبر في بعض الأزمنة تحوّل — بفعل غياب الضوابط أو ضعف التأطير الديني — إلى وسيلة لترويج المذهبيات الضيقة والخلافات الفكرية والسياسية.
وفي هذا السياق، لم تعد الخطبة مجرد توجيه تعبّدي، بل أصبحت ـ في كثير من الأحيان ـ منبرًا إعلاميًا ذا تأثير واسع، وهو ما يقتضي من القائمين على الشأن الديني ودوائر الإفتاء والعلماء التعامل مع هذا التحوّل بوعي ومسؤولية.
وفي هذا السياق أدركت العديد من الدول الإسلامية خطورة المرحلة، وفي مقدمتها المملكة المغربية، التي كانت سبّاقة إلى اعتماد سياسة دينية متوازنة تقوم على توحيد خطبة الجمعة تحت إشراف المجلس العلمي الأعلى ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بما يضمن وحدة الكلمة وحماية المنبر من الاستغلال السياسي أو المذهبي.
هذا القرار لم يكن تقييدًا لحرية الخطباء؛ بل حماية لحرية الدين من العبث والتطرف، وضمانًا لأن تبقى رسالة الجمعة نابعة من الهدي النبوي لا من نزعات شخصية أو أجندات حزبية .
وفي المقابل، تبدو الحاجة ماسة اليوم إلى أن تحذو الدول الغربية التي تحتضن جاليات مسلمة كبيرة حذو هذا النهج، خصوصًا في ظل تنامي ظاهرة “الإسلاموفوبيا” وما تفرزه من احتقان متبادل. فكما يوجد تطرف إسلاموي يسيء إلى الإسلام من الداخل، هناك أيضًا تطرف يميني في الغرب يتغذى على أخطاء المتشددين لخلق صورة مشوهة عن المسلمين. والنتيجة أن كليهما ـ على اختلافهما ـ يتبادلان الأدوار في صناعة الخوف والكراهية.
إن توحيد خطبة الجمعة في أوروبا، أو على الأقل وضع ضوابط علمية ومؤسساتية لمضامينها، أصبح ضرورة حضارية وأمنية في آنٍ واحد؛ لأن بعض الخطباء يستغلون المنابر لتمرير أفكار متشددة أو دعوات انعزالية تخدم أجندات خارجية لا علاقة لها بروح الإسلام السمح، مما يهدد التعايش داخل المجتمعات الأوروبية المتعددة الثقافات.
فمنبر الجمعة في عصر السماوات المفتوحة أصبح سيفًا ذا حدين: إما أن يكون منبرًا للهداية والوحدة والسكينة، أو أن يتحول إلى منصة لبث الكراهية والانقسام. ومن هنا فإن الرقابة العلمية والتأطير الديني الرشيد، إلى جانب التكوين المتخصص للأئمة والخطباء، هي الكفيلة بجعل هذا المنبر يعود إلى أصله النبوي الشريف، فيكون صوتًا للوئام لا للخصام، ولسانًا للحكمة لا للفتنة.
ختاما، إن خطبة الجمعة اليوم لم تعد مجرد كلمات تُقال في مسجدٍ محدود، بل رسالة تبثها الأقمار الصناعية وتتناقلها المنصات الإلكترونية، يسمعها الملايين في كل أنحاء العالم. ومن ثمّ، فإن الحفاظ على نقاء هذه الرسالة بات مسؤولية جماعية للأمة الإسلامية بأسرها، حتى يبقى منبر الجمعة منبرًا للسلام والوعي والتنوير في عالم يزداد تشابكًا وانفتاحًا يوماً بعد يوم .
التعليقات