7 يونيو 2025 / 15:28

خطابات العودة إلى العصر الذهبي للأخلاق خطابات لا سياسية

كريم محمد

إنّ للمشاعر تاريخًا سياسيًّا قلّما يُروى. هناك صلة وثيقة بين الفعل المشاعريّ والتجسيد السياسيّ لا يمكن بحال إغفالها. تُكتَب تواريخ الانفعال والعاطفة والمشاعر في سياق نفسيّ غالبًا ما يبترها عن تاريخها الاجتماعيّ والسياسيّ.

لكن، ما الذي تعنيه الوقاحة؟ وكيف تعملُ الوقاحةُ عملَها؟ وبأيّ معنًى نحن وقحون في تاريخ الرأسماليّة المتأخر؟

كأيّ فعلٍ بشريّ، يجري إنتاج الوقاحة ضمن سياق لا يخلو بالضرورة من «اللباقة»، فاللباقة نفسها تملكُ تاريخًا سياسيًا، بل في كثير من الأحيان يكون الحَض على اللباقة يُضمر في باطنهِ وقاحة غير عادلة تغلّف نفسها بلبوس برّاق. بالأحرى، تكون الوقاحة تعبيرًا فوقيًّا عن ما هو تحتيّ؛ عن الحقيقة التي جرى تغليفها على الدوام، عن المكبوت الذي لا يقال.

نحيا اليوم في عالمٍ حيث الوقاحة ذات طابع بنيويّ فيه، اللغة ذاتها وقحة، السياسة، الاقتصاد، و«المبادئ» وقحة. وهذا ليس شجبًا أخلاقيًّا على الوقاحة، وإنما هو تفحُّص لمدى بنيويّة الوقاحة كممارسة عمليّة لعلاقات اللاتكافؤ التي تحكم الحياة اليوم.

اليوم، نحن نعيش في عصر «وَقح». بين ساسةٍ وقحين. وأصحاب مصالح وقحون. يستخدمُ الساسة اليوم لغة وقحة، ووقحة للغاية، في مخاطبة الشعوب. ترمب، بكلّ ما أوتيَ، يتحدّث بكلّ وقاحة عن «الأشرار» من السودانيين وجنسيّات أخرى يدمرون أميركا، لذا حظر عليهم الدخول بالوقاحة اللغويّة والسياسيّة. الخطاب اليمينيّ للساسة اليوم لا يجدُ غضاضة في وقاحة خطابه، بل يرى أنّها لا مندوحة عنها على عكس الخطاب الليبراليّ الذي يحدّثنا طوال الوقت بخطاب «لَبِق» يُضمِر الوقاحة، ظانًّا أنّه حر وأخلاقيّ وعادل.

في قضيّة المهاجرين مثلًا، ستجد الخطاب اليمينيّ خطابًا واضحًا في وقاحته —لا نريد جنسيّات عالمثالثيّة تعبث بنسيجنا الوطنيّ، وتسرق خيراتنا (والحقّ، أنّ الحقيقة معكوسة، فالغرب هو من يسرق العالم الثالث بالموارد والعمالة الرخيصة من أجل الحفاظ على مستويات الدخل والإنتاج في بلدانه). أمّا الخطاب الليبراليّ، فخادع أيّما خداع. سيقول لك أهلًا بالمهاجرين «لكن» عليهم احترام ثقافتنا وبلدنا —أي عليهم أن يكونوا غربيين تمامًا، بكلّ وقاحة ممكنة.

الخطاب اليمينيّ في النهاية خطاب سياسيّ، له حججه، وليس خبط عشواء. خطاب يمارس السياسة ضمن منطق واحد قائم على التفرقة بين الصديق والعدو (نظريّة كارل شيمت). فيما الخطاب الليبراليّ يغلّف وقاحته ببساطة.

يجد الناس أنفسهم أيضًا يمارسون لغة وقحة. حين يغيب التمثيل السياسيّ العادل كما في الشرق الأوسط عمومًا، والتوزيع العادل، والدخل العادل، يتحوّل كلّ ذلك إلى مكبوت لغويّ ومشاعريّ. وعوض أن يوجّه هذا المكبوت حيال السلطة، يمارس الناس الوقاحة على بعضهم البعض. تغدو الوقاحة هنا في هذا السياق «سياسيّة» في الطريق المعاكس والخطأ.

وعليه؛ الخطاب الذي يحضّ على الأخلاق اليوم، وخطابات «التوازن»، وخطابات العودة إلى «العصر الذهبيّ» للأخلاق… هي كلّها وقحة أيضًا. لأنّها ببساطة خطابات لا سياسيّة، تطالب بخلق ألسن لبِقة في زمن وقح، وفي ظلم وقح، وقانون أشد وقاحة. تغدو الدعوة إلى «اللباقة» نفسها وقحة.