6 يوليو 2025 / 18:09

حين تُدين النخبة صرخات الهامش: هل أصبحت السوسيولوجيا بلا آذان؟

داحوس عبدوس

لماذا تُتهم موسيقى “طوطو” بالفوضى والانحطاط؟
وهل فقد بعض السوسيولوجيين حسّهم النقدي حين يواجهون فنون الهامش؟
في عالم غير عادل، لا تكون الموسيقى جميلة دائمًا… بل غاضبة، مبتذلة، ومليئة بالقلق.
قراءة في فنون التمرد، من طوطو إلى الميتال، ومن أدورنو إلى هارتموت روزا.
موسيقى الهامش أم هامش السوسيولوجيا؟
في خضم النقاشات التي أثيرت حول “طوطو” وموسيقى الراب المغربية، برزت تدوينات وتحليلات لبعض الأساتذة والباحثين السوسيولوجيين تكشف عن مفارقة دالة: أولئك الذين يُفترض فيهم أن يُنصتوا لنبض المجتمع، ويتفهموا تحوّلاته التعبيرية والثقافية، انبروا لإدانة هذه الأشكال الفنية باسم “القيم”، بل وأحيانًا باسم “الذوق” أو “الجمال”. وهذا ما يكشف، في العمق، عن فجوة متسعة بين بعض نُخب التحليل الاجتماعي، وشباب يعيش في عالم متصدع، يبحث عن صوته وسط الضجيج.
ما يغيب عن كثير من هذه القراءات هو أن موسيقى الراب، وأمثالها من فنون الهامش، ليست مجرد تفلّت او انفلات تعبيري أو انحدار لغوي. بل هي استجابة جمالية ـ وإن كانت متمردة ـ لوضع وجودي غير متوازن. ليست تجاوزًا للقيم، بل تعبير عن اختلال القيم ذاتها. إنها فن الغضب، الذي لا يطلب الإذن كي يُعبّر، لأنه وُلد من رحم التهميش، لا من مراكز صناعة الذوق العام.
يُعيدنا هذا إلى ما كتبه الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا في كتابه الفريد:
“No Fear of the Dark: Une sociologie du heavy metal”
حيث تناول ظاهرة موسيقى “الميتال” من منظور سوسيولوجي عميق، معتبرًا إياها تعبيرًا فنيًا عن الغضب، والقلق الوجودي، والاغتراب في عالم باتت فيه الحياة فاقدة للمعنى. لا يركّز روزا فقط على الموسيقى في ذاتها، بل على المستمعين: من هم؟ لماذا يصغون لهذا الصخب؟ وماذا يجدون فيه من تعزية روحية لا توفرها لهم الموسيقى المألوفة(الهادئة و المهذبة حسب تعبير البعض)؟
الراب، مثل الميتال، هو تمرين على التعبير، لكنه تمرين عنيف، يحتكّ بمشاعر القمع، واللامساواة، والتمثيل الناقص في الفضاء العام. ما يُنعت بالابتذال قد يكون، في واقعه، لغة مضادة، تلجأ إلى كسر الجمالية السائدة كي تُحدث صدمة الكشف و الجهر باختلالات الوضع القائم، وتحرّك السؤال، لا كي تطرب الأذن.
لذلك فإن ما يسميه البعض “فوضى تعبيرية” أو “تفاهة فنية” قد يكون في حقيقته صرخة وجود، مرآة للهشاشة الاجتماعية، وتجسيدًا صادقًا للواقع كما هو، لا كما يجب أن يكون. في فكر أدورنو، نجد ما يعبّر عن ذلك حين يقول: “لن يكون التعبير ملائمًا عن واقع غير ملائم”، أي أن اللغة الفنية التي تسعى إلى الدقة والنقاء والجمال ليست بالضرورة صادقة عندما يكون الواقع نفسه فوضويًا، موجعًا، وغير متسق.
إن المُقلق في بعض مقاربات السوسيولوجيين، ليس موقفهم من موسيقى طوطو في حد ذاته، بل الأسس التي ينطلقون منها: هل لا يزال دور السوسيولوجيا هو فهم الظواهر الاجتماعية من داخلها، أم إصدار أحكام عليها من خارجها؟ هل المطلوب من الفن أن يُؤدِّب الواقع، أم أن يعكسه؟ ومتى أصبح التعبير عن الألم جريمة فنية؟
لقد آن الأوان أن نُعيد النظر في موقع الفن من المجتمع، لا من منظور النخبة، بل من موقع الحياة نفسها. ليس الراب ظاهرة جمالية بقدر ما هو ظاهرة اجتماعية مشحونة بالتناقضات و التوترات و الصراعات، وكل محاولة لفهمه يجب أن تبدأ من هناك: من الحي، من الشارع، من الجرح. أما أن نحاكمه من علٍ، بذائقة برجوازية ناعمة، فذلك لا يؤدي إلا إلى تعميق الهوة، لا إلى ردمها.
لعلّ المفارقة المؤلمة التي يكشفها هذا الجدل هي أن موسيقى الهامش لا تعيش فقط في هامش المجتمع، بل أيضًا في هامش وعي من يُفترض أنهم الأقرب لفهم المجتمع.