اجرى الحوار الاستاذة خديجة منصور
برز الفكر الفلسفي اليوناني في محاولة للقطع مع الاسطورة “الميتوس”، ليصل العقل “اللوغوس” ذروته مع الفلاسفة القدامى، الذين اهتموا بالتفكير في الوجود الإنساني، أي بالمعنى الأرسطي “الأسس الأولى”، وأعطوا أولوية كبيرة للإنسان باعتباره كائناً اجتماعيّاً، يعيش داخل نظام اجتماعي منظم.
لقد طرح الفلاسفة إشكاليات متعددة ومتنوعة، ارتبطت بتخصصات فلسفية كثيرة، من قبِيل فلسفة الأخلاق، فلسفة الجمال، فلسفة البيئة، وغيرها من التخصصات الفلسفية الأخرى.
و مما لا ريب فيه هذا التنوع الذي عرفه التفكير الفلسفي في الزمن الراهن حفزنا على بسط السؤالين التاليين: هل بإمكاننا انطلاقا من الفلسفة مواجهة الصعوبات الراهنة المرتبطة بإشكالية الصحة والمرض أي بمعنى آخر جدلية الحياة والموت؟
هل نحن في حاجة إلى علاج فلسفي أو إلى تخصص فلسفي جديد يهتم ب ” فلسفة الصحة “.
ففي ظل ما يعيشه العالم اليوم من قبيل الأمراض والفيروسات والأوبئة،أصبح الإنسان يفكر في حياته التي أضحت مهددة وانتقل من التفكير في الوجود إلى التفكير في الموجود أمام سيطرة الطبيعة، ومن هنا جاءت الفكرة الجماعية لمجموعة من الأساتذة من مختلف الدول العربية بنفض الغبار عن هذا التخصص الجديد ألا وهو الصحة والفلسفة من خلال إصدارهم لكتاب يحمل اسم “الصحة والفلسفة “، فحاولوا من خلاله تسليط الضوء على موضوع الصحة وعلاقتها بالفلسفة، بحكم أنها متداخلة مع الطب، ولايمكن الحديث عن الفلسفة المتعلقة بحياتنا اليومية دون الحديث عن الفلسفة العملية والتطبيقة.
وسعيا منا لتقريب هذا التخصص الفلسفي الجديد للقارئ، ارتأينا إجراء حوار مفصل مع الأستاذ “اسماعيل بوزيد” باعتباره منسقاً ومُعدّاً للإصدار الفلسفي الجديد الموسوم ب”الصحة والفلسفة”، الذي شارك فيه مجموعة من الأساتذة الباحثين من المغرب، مصر، تونس، سوريا.
السؤال الأول: هل نحنُ في حاجة إلى تخصّص فلسفي جديد مثل فلسفة الصحة؟
بادئ ذي بدءٍ، إنَّ سؤالكم هذا يُلامسُ الموضوع الأساس الذي شُيّد عليه الكتاب، والمتمثل أساساً في فلسفة الصحة بوصفها تخصّصاً جديداً، يَنضاف إلى التخصّصات الفلسفيّة الأخرى. ويَلزم التنبيه هاهنا إلا أنَّ تخصّص فلسفة الصحة لم يحظ بالاهتمام الكافي، مُقارنة بِغيره من التخصّصات الفلسفية الأخرى، نظراً لكون هذا التخصّص ما يزال بكراً، لأنَّه لم يَبرز إلا في الفترة المعاصرة، وخاصَّة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، وكان لهذا الظهور أسباب مُتعددة، من أهمّها استقلال الفلسفة عن العلوم، وبُروز تخصّصات فلسفية قائمة بذاتها، ومن ثم غدا لكل مجال من مجالات المعرفة والعلوم والأدب فلسفة خاصَّة به، وعلى سبيل المثال فلسفة العلوم، فلسفة الفن، فلسفة البيئة وفلسفة القانون. وهكذا، يتبدى إذاً أنَّ بُروز تخصّص فلسفة الصحة باعتباره تخصصاً جديداً يَنضاف إلى التخصّصات الفلسفية السالفة الذكر، يَستمدُّ مَشروعيّته من بعدين أساسيين، أولهما، النزعة التخصّصيَّة التي عرفتها الفلسفة المعاصرة، وجل حقول المعرفة والعلوم في الفترة المعاصرة، بحيث أصبحنا أمام تخصّصات فلسفية بعينها. ثانيّاً، انبثاق إشكالات فلسفية جديدة، من قبيل إشكالية الصحة والمرض، إشكالية الصحة والحياة، إشكالية الصحة والسياسة، إشكالية المرض والخوف، وغيرهم من الإشكاليات الأخرى، الأمر الذي ساهم في بروز فلسفة الصحة من حيث كونها التخصّص الوحيد فحسب الذي يُمكنه أن يُعالج هذه الإشكاليات الفلسفية.
تهتمُّ فلسفة الصحة بدراسة موضوع الصحة باعتباره موضوعاً شائكاً ومُركباً، لأنَّه يُثير قضايا جمَّة مُتصلة بالصحة، من قبيل المرض، الحياة، الموت والسعادة، وذلك من أجل تقديم تصوّرات فلسفية دقيقة وواضحة حوله. وفضلاً عن ذلك، يَنصبُّ اهتمام فلسفة الصحة على دراسة مشكلة التشخيص الخاطئ للمرض، وذلك قصد تَجاوز الفهم الذي يَشوبه الغموض تجاه مفهومي الصحة والمرض، ومن ثم تشييد فهمٍ دقيقٍ وواضحٍ حول كل ما يتعلق بهذين المفهومين، وهذا لن يتأتَّى إلا من خلال النظر إلى الصّحة ليس باعتبارها مجالاً تقنيّاً وعلميّاً واقتصاديّاً فحسب، بل بوصفها مجالاً أخلاقيَّا، ومن ثم فهم علاقة السَّقمُ والوَصبُ من خلال نظرية المريض. وعلى الرغم من كون هذا التخصص ما يزال بكراً؛ أي ما يَزال في بداياته الأولى، إلا أنَّ هناك بعض الدراسات والأطروحات التي تشتغل ضمن هذا التخصّص، وتُركز بشكلٍ كبيرٍ على موضوع الصحة في علاقته بحقوق الإنسان، مثل الحق في الصحة، والحق في الحياة.
السؤال الثاني: كيف يمكن اعتبار أن الصحة هي “الخير الأسمى للإنسان وغاية غاياته”؟
تَكمنُ أهمية الصحة ليس بالنظر إليها على أنَّها غياب السّقم أو انعدام الزَّمانة أو السلامة الجسدية أو الرفاهية الجسدية، وإنَّما بالنظر إليها على أنَّها حالة من الرفاهية الجسدية والعقلية والاجتماعية؛ فالصحة هي حقٌّ أساسيٌّ لكل إنسان، ولا يمكن التنازل عنه، وهو أمر ساسيٌّ لتحقيق السلام والأمن العالميين، كما أنَّه أساس السعادة والغبطة للإنسانيَّة جمعاء. وإذا كان الإنسان قد اهتمَّ بالصحة وسُبل اكتسابها والحفاظ عليها، والابتعاد ما أمكن ذلك عن المرض وعِلله، فإنَّ هذا الاهتمام ليس حديثاً، وإنَّما قديم؛ أي يعود إلى العصر القديم، وخاصَّة إلى اليونانيين، وإن كانت هناك بعض الاختلافات بين هاذين الاهتمامين. ويتمثل اهتمام اليونانيين بالصحة في كونهم كان لديهم ولعٌ وشغفٌ كبيرين بالرياضات، من قبيل الجمباز، المصارعة وسباق المسافات، لأنَّها لديها فوائد جمَّة في حياة الإنسان، إذ تساعده على التخلص من الثَّخَنُ والتعب والعياء بوصفها سموماً فتاكة، تفتك بجسد الإنسان وتجلب له الهلاك، ومن ثم تحقيق التوازن للجسد والصحة والسلامة والهدوء. وعلاوةً على ذلك، يمكن القول بأنَّ القدماء أولوا اهتماماً كبيراً بنظافة الجسد والملابس، ولكنهم ربَّما فعلوا ذلك احتراماً للقواعد والمعايير الاجتماعيَّة، أو احتراماً لطقوسهم الخاصَّة التي ربَّما كانت تقتضي ذلك، لأنَّ شرط النظافة الصحية في الحياة من أجل الحفاظ على السلامة الصحيَّة، ومن ثم تجنب المرض، لم يكن موجوداً بعد. ولكنّ، تطوّر العلوم في الفترة المعاصرة، جعل الإنسان يُدرك جيداً بأنَّ النظافة شرطٌ أساسيٌّ للحفاظ على الصحة، ومن ثم تأكد للإنسان بأنَّه كلَّما كان نظيفاً إلا وحافظ على صحَّته، وابتعد بذلك عن المرض، وكلَّما لم يكن نظيفاً إلا وكانت صحَّته مهدّدة بالزوال، واقترب بذلك من المرض والسَّقْمُ. وتجدر الإشارة هاهنا إلى أنَّ اسم هيجيا، هو مصدر كلمة النظافة. وقد اعتبر الرومان خطأ أنَّ هيجيا إلهة الصحة الشخصية، ولكنَّ مع مرور الوقت بدأ التعرّف عليها بشكلٍ دقيق باعتبارها إلهة الصحة الجيدة والنظافة، إضافة إلى إلهة الرعاية الاجتماعية الإيطالية القديمة سالوس.
ومن الممكن أن نجد كذلك في الفلسفة اليونانيَّة جُملة من التصوّرات الفلسفيَّة والفكريَّة تَكشفُ بشكلٍ دقيقٍ عن أهميَّة الصحة وقيمتها لدى الإنسان، وعلى سبيل المثال، يُقرُّ أفلاطون بأنَّ التنعُّم بصحةٍ جيدة هو أفضل شيء، بينما أرسطو ما فتئ يُشير في متُونه الفلسفية إلى قيمة الصحة وضرورة الحفاظ عليها. وهكذا، يتبدَّى إذاً أنَّ الصّحة حظيت باهتمامٍ كبيرٍ من قِبَلِ الإنسان، وبمجرد ما تم الاعتراف بقيمتها، فإنَّ الاهتمام بها ظل حاضراً على امتداد العصُور القديمة إلى الفترة المعاصرة، وإن كان الاهتمام بها قد ازداد في زماننا الرَّاهن، نظراً لوَعيِنا بقيمتها وأهميّتها في ظل انتشار الأمراض والأوبئة والفيروسات الفتَّاكة التي ما فتئت تُهاجمنا. إنَّ وَعي الإنسان بقيمة الصحة وأهميتها في الحياة، جعله يَرفع شِعار السيطرة على الطبيعة، وهذه السيطرة يَكاد لا تتحقق إلا من خلال العِلم النافع بِلغة فرانسيس بيكون، والرياضيات بِلغة روني ديكارت. ولهذا، عمل العلماء على تطوير أدوات البحث العلمي، وذلك قصد اختراع الأدوات الطبيَّة والأدويَّة واللقاحات، التي من شأنها أن تُساعدنا في القضاء على الأمراض والفيروسات والأوبئة التي تُهدّد صحَّتنا، وتُحاول سلبنا حياتنا، ومن ثم نحيا حياةٍ خالية من المرض والألم والمعاناة؛ أي أن نحيا حياة سعيدة وعيشٍ جيّدٍ وكريمٍ.
ولا غرو إن قلنا هاهنا بأنَّ تحصيل الصحة هو مدخل أساسيٌّ لتحصيل السعادة، لأنَّ كلا المفهومان مُترابطان ومُتَّصلان، بحيث حينما نَكتسبُ صِحَّتنا بَعد مَرضنا، فإنَّنا نَستمتعُ ونسعدُ بها، ونُدرك قيمة الصَّحة وأهميّتها، ومن ثم نَعمل دائماً على الحفاظ عليها من خلال الوقاية، وذلك قصد تحقيق استمراريَّة الحياة والعيش بسعادةٍ.
السؤال الثالث: كيف ساهمت الفلسفة في كبح الادعاءات المغلوطة، ودحض التأويلات الخطيرة التي تزامنت مع الحالة الوبائية العالمية “فيروس كورونا”، خصوصاً من جانبه الديني والعقائدي؟
إذا تأملنا في مُتون الفلاسفة ابتداءً من الفترة القديمة، ومُروراً بالفترة الحديثة ووصولاً إلى الفترة المعاصرة، فإنَّنا نجدهم يؤكدون على ضرورة تجنب إصدار الحُكم على شيء ما ليس لنا معرفة كافية به، لأنَّ هذا الحكم يُنتج لنا آراء خاطئة، ممَّا يعني هذا أنَّ الذي يجعلنا نُخطئ غالباً هو أنَّنا نَحكم على شيء ما دون أن تتوفر لدينا معرفة دقيقة بما نَحكم عليه بلغة روني ديكارت، ومن خلال هذه الآراء الخاطئة تنتشر تأويلات خُرافية وأسطورية، تُشكلُ في كثير من الأحيان خطراً كبيراً على حياة الإنسان. وعلى سبيل المثال، عندما ظهر فيروس كورونا بالمغرب في مارس سنة 2020، أعلنت السلطات عن حالة الطوارئ الصحية، وأخذت جُملة من التدابير الاحترازية التي من شأنها أن تُحافظ على سلامة وأمن الموطنين، من قبِيل إغلاق المدارس والجامعات، وتعويض التعليم الحضوري بالتعليم عن بُعد. فضلاً عن ذلك، تم إغلاق المساجد، الأمر الذي أثار نقاشاً كبيراً بين المواطنين حول صحة هذا الإجراء، وتفرّع عنه نقاشاً دينيّاً حول فيروس كورونا، ومن ثم ظهرت بعض الدعوات السلفية المُتطرفة التي اعترضت على فتوى إغلاق المساجد، الأمر الذي دفع السلطات إلى الحكم بالسجن على بعض السلفيين المروجين لهذا الخطاب المُتشدّد.
بيد أن هذا الحكم لم يَحَل دون ممارسة المواطنين للشعائر الدينية بشكل جماعي في الأماكن العمومية، دون مراعاة التدابير الاحترازية التي أخذتها السلطات، بحيث خرج عدد كبير من المواطنين في بعض المدن المغربية لكي يُمارسوا الشعائر الدينية في الشوارع، معتبرين بأنَّ هذا السلوك من شأنه أن يُخلصنا من وباء كورونا، ولكنّ هذا السلوك يُهدّد سلامة وصحة المواطنين، ويُعرّض حياتهم للخطر. وأمام هذا الفهم المَغلُوط للوباء، الذي ساهم في ظهور تأويلات خاطئة حول أصل الوباء باعتباره ابتلاءً من الله، أو عقاباً إلاهيّاً على ما يَقترفه الإنسان من خطايا ومعاصي، عمل بعض الباحثين والمفكرين المتخصصين في الفلسفة على مُجابهة هذه الادعاءات المَغلُوطة والآراء الخاطئة، ومن ثم نقدها وتقويضها، وبناء تصوّرات فلسفية دقيقة وواضحة حول وباء كرونا، من شأنها أن تُساهم في توعية المواطنين بضرورة الوقاية من هذا الوباء، وذلك من أجل الحفاظ على سلامة وصحة المواطنين، ومن ثم الحفاظ على حياتهم.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=16518