حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها (2/2)

ذ محمد جناي
آراء ومواقف
ذ محمد جناي27 يوليو 2021آخر تحديث : الثلاثاء 27 يوليو 2021 - 3:20 مساءً
حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها (2/2)

ذ. محمد جناي
كانت أوروبا الكاثوليكية في القرون الوسطى ، وبخاصة في غربها وشمالها، لا ترحب بالوجود اليهودي فيها، وكان هذا سببا في توجه اليهود نحو العيش في بلاد الأندلس الإسلامية، حيث الرخاء والاستقرار والمدنية والعدل، في مقابل التأخر والظلم والظلام في بلدان أوروبا في ذلك العصر، ولكن هذه الدول الدول الإسلامية بدأت في التساقط بدءا من القرن الثالث عشر ، فسقط معها أمن اليهود، إذ عانوا من الكاثوليك الذين سيطروا على مقاليد الحكم في الأندلس ، وأقاموا فيها محاكم التفتيش والتعذيب للمسلمين ولليهود معا، على اعتقاد أنهم قتلة المسيح وصالبو -كما تقول العقيدة الكاثوليكية – لكن بعض هؤلاء المضطهدين لجؤوا لحيلة يهودية ، وهي إظهار التحول للديانة النصرانية الكاثوليكية من باب التقية والخداع ، مع احتفاظهم في السر بعقيدتهم وديانتهم، وظهرت بذلك طائفة دينية تدعى ( المارانو) ومعناها : «المتخفين».

كان من الحيل الخطيرة التي لجأ إليها يهود (المارانو)، أن بدؤوا في انتحال المناصب الدينية النصرانية التي كانت تشترى بالمال وتؤخذ بالرشوة، ومن فوق كراسي المناصب الدينية النصرانية ، بدأ نفر من اليهود ينتقدون تلك الديانة من الداخل، وبدأت في مطلع القرن السادس عشر موجة من تسويغ النقد الديني لم تكن موجودة من قبل ،وقد ساعدت أجواؤها على ظهور أمثال (مارتن لوثر) الذي كان أستاذا في اللاهوت الكنسي الذي يعتني بعلم العقائد النصرانية ، وقد افتتح الباب أمام نقد الديانة النصرانية بنَفَسٍ يهودي.

ومن الحقائق التاريخية التي تكاد تخفى وسط أكوام الأوهام عند الكلام عن قارة «النور والضياء » أوروبا ؛أن هذه القارة الوحيدة بين قارات العالم القديم التي عاشت تاريخها رافضة للنور والضياء المنزل مع وحي السماء؛ فقد قضت تاريخها القديم متقلبة بين لوثات الوثنية اليونانية ثم الرومانية ، رافضة هدايات الرسل، ومتكبرة على رسالاتهم بسفاهات الفلاسفة وتُرٌَهات المناطقة ، ولم يُعرف للأوروبيين حظ في أن يكونوا أمة أي نبي مرسل ، حتى إذا ما بعث عيسى عليه السلام في بلاد الشام المتاخمة لجنوب شرق أوروبا، أَنِف القياصرة من دينه، بل كان وكلاء قيصر شركاء لليهود في التآمر على قتله، لكن الله نجاه منهم .

لكن القياصرة وجدوا بعد عهد عيسى عليه السلام أن ديانته تنتشر في الأرض، وتفضح وثنية القوة العظمى الثانية في العالم والمنافسة لقوة الفرس، في الوقت الذي كانت تتطلع فيه هذه القوة الوثنية الأوروبية إلى مد أطرافها لقيادة إمبراطورية عالمية ، وقد وجد القيصر قسطنطين أن يدخل ولو ظاهرا في الديانة النصرانية الآخذة في الانتشار بعد رفع عيسى عليه السلام بثلاثمائة عام، وقرر الأوروبيون أن يتركوا الوثنية ويدخلوا في الديانة النصرانية .

لم تستطع أوروبا أن تتخلص من ثقافتها الجاهلية الوثنية الرومانية، فلم تقبل بديانة المسيح إلا في صورتها الممسوخة على يد اليهودي ( بولس شاؤول) ؛ ذلك المفسد الذي دخل في ديانة المسيح نفاقا ليفسدها من الداخل ، ويحولها إلى ديانة وثنية، وقد اعتنقت أوروبا هذه النصرانية المختلطة بالوثنية والقائلة بالتثليث عام 523 م بعد مجمع (نيقية) الشهير، ولم تكن الديانة المحرفة الجديدة في أوروبا فاتحة خير لها ، بل بدأ معها ضعفهاوتأخرها، ففي الذاكرة الأوروبية القديمة ؛ ارتبطت الوثنية بالقوة والتقدم والحرية، وارتبطت المسيحية بالاستبداد والتأخر والضعف، ودخلت أوروبا منذ ذلك التاريخ في دوامة الانحطاط والتخلف الذي امتد لثماني قرون .

حتى ظهرت في أوائل القرن السادس عشر الميلادي بوادر انشقاق اعتقادي جديد في الديانة النصرانية، تمثل في حركة احتجاج ديني على مسلك الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا، حيث بلغت هذه الكنيسة غاية التعصب والانغلاق الممزوج بالانتهازية والنفعية وأكل أموال الناس بالباطل، وقد نشأ تحالف قوي بين رجال الدين ورجال السياسة ورجال المال على خلفية منافع متبادلة ، يضفي رجال الدين خلالها هالة من القداسة على حكم الملوك باسم نظرية (الحق الإلهي) ، في حين يمنح الساسة (المقدسون) أصحاب المال من الإقطاعيين الحق في تسخير عامة الشعب من الفلاحين والعمال في الإقطاعيات وأماكن العمل.

وقد كان من الممكن أن تأخذ حركة الاحتجاج منحى إصلاحية دنيويا غير أن القائمين عليها ، وعلى رأسهم زعيم المحتجين (مارتن لوثر) (1482-1546م )؛أيقنوا أن الفساد بدأ من رأس السمكة الممثل حينها في رجال الكنيسة ، فكل فساد كان ناتجا عن فساد عقائدهم وتصوراتهم التي ترجمت إلى واقع فاسد في كل أركان المجتمع؛ فمن فساد ديني ينشره القساوسة والرهبان ببدعهم وتحجرهم الفكري في وجه العلم والعلماء ، إلى فساد سياسي بسبب الاستبداد المسنود بما زعموه من الحق الإلهي في الحكم، ثم فساد اقتصادي يرعاه الإقطاعيون الذين قهروا الملكية الخاصة للناس بإقرار رجال الدين.

ولأن بداية الفساد كانت من الكنيسة ؛كان لابد أن يأخذ الإصلاح منحى دينيا ، أطلق عليه فيما بعد بحركة الإصلاح الديني ، حيث قام عليها محتجون معارضون ، وهم الذين عرفوا ب (البروتستانت )،لهذا يذهب أكثر الباحثين إلى أن أصول الليبرالية وجذورها ترجع إلى مبادئ (حركة الإصلاح الديني) التي أثمرت مذهب (البروتستانت) ، ولذلك كانت تفاعلات حركة مارتن لوثر أنها كانت تجري على خلفية قضية كبرى ، هي قضية « التحرر » من آثار الانحراف والتحريف الديني ، وهي القضية -التي تفرعت عنها فيما بعد – قضايا التحرر السياسي والتحرر الاقتصادي والتحرر الثقافي ، وهو ما جمع فيما بعد في لفظ (الليبرالية) ، أي التحرر.

هناك رؤيتان لعلماء مقارنة الأديان والباحثين في أصول الثقافات وعلم الاجتماع والإنثروبولوجيا(علم الإنسان) بشأن مصدر أو أصل الفكر الليبرالي:

الرؤية الأولى: وهي الغالبية من الباحثين والمفكرين المذكورين ؛ترى أن أكثر الأفكار الليبرالية مصدرها حركة الإصلاح الديني البروتستانتي ، التي تستمد مارتن لوثر مبادئها من قيم ؛ يقولون إنها معتقدات مسيحية في الأصل ولكن الكنيسة غيبتها وحرفتها.

الرؤية الثانية: يذهب أصحابها إلى أن الفكر الليبرالي ترجع أصوله إلى الثقافة اليونانية، وتحديدا فلسفة أرسطو وأبيقور، وهما فلسفتان تأثر بهما مارتن لوثر في دعوته.

ويلاحظ أن هاتين الرؤيتين اتفقتا على أن مارتن لوثر بثورته الإصلاحية هو همزة الوصل بين المصدرين؛ فأصول النصرانية أو الفلسفة اليونانية ، أو هما معا ؛ تمثلان البداية التي تواصلت وتطورت بعدها الأفكار الليبرالية حتى العصر الحاضر.

وكانت أغلب البلاد الإسلامية تحت حكم الدولة العثمانية في عصر النهضة الأوروبية ، وهي دولة قائمة على تحكيم الشريعة الإسلامية في الجملة ، وقد تسللت الليبرالية إلى البلاد الإسلامية من خلال الجمعيات السرية التي كونها أفراد تأثروا بالفكر الغربي وانبهروا بحضارته المادية، لكن وجدت عوامل أضعفت ثقة الأمة بدينها، وهيئت المجتمع المدني الإسلامي لتقبل الليبرالية وعدم مقاومتها، وهذه العوامل هي :الانحراف العقدي ، والاستبداد السياسي، والجمود والتقليد، وهي ليست أسبابا مباشرة في وجود الليبرالية ، ولكن هذه العوامل أوجدت أرضية متقبلة، ومناخا مناسبا للرضى بالليبرالية ،والسكوت عليها.

ولا شك أن السبب المباشر لدخول الليبرالية في العالم الإسلامي هو الاستعمار وأذنابهم من دعاة التغريب، والمنبهرين بالحضارة الغربية، والذي حاول معه التيار التغريبي زرعه في تربتنا، مع معرفته التامة أن هذا النبت الخبيث لا ينمو في هذه الأرض الطاهرة،فهو فكر منحل لم يجني منه زارعوه غير الانحلال والتهتك،والإلحاد، والتضارب في المعتقدات والأفكار،مما جعلهم يعيشون في فوضى عارمة على كافة الصعد الأخلاقية،والاجتماعية، والاقتصاديةوالسياسية،هذا الفكر الذي يستحيل أن يجتمع معه ديننا الإسلامي أو يتعايش معه، بل لا بد من مواجهته مواجهة صريحة تبين عواره،وتكشف زيفه،وتوضح ضلاله وما يدعو إليه من انحراف وزيغ عن طريق النور والصلاح.

كما أن الإسلام يدعو إلى التحرر لكن لا كتحرر الليبرالية، بل هو تحرير للنفس من العبودية لغير الله, وتحريرها من عوامل الضعف والخوف والفقر،وأن التعددية والتسامح بالمنظور الليبرالي مرفوض, لأن قبولهما يعني تقبل المنظومة الفكرية المتكاملة المبينة على أسس معرفية، وفلسفة غربية للحياة.

والليبرالية -كما سبق – فكرة غربية مستوردة، وليست من إنتاج المسلمين ، وهي تنفي ارتباطها بالأديان كلها ، وتعتبر كافة الأديان قيودا ثقيلة على الحريات لا بد من التخلص منها، وقد تقدم الكلام حول حقيقتها ، وتصورها لمفهوم الحرية ، ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن الليبرالية مناقضة للإسلام في أصوله ومنهجه وأخلاقه وقيمه، ومحاولة التوفيق بين “الليبرالية” و”الإسلام” هي تغيير لمفهوم كل واحد منهما ، وتبديل بمعناه يخرجه عن حقيقته إلى مفهوم مشوه ، وصورة غير صحيحة لكل منهما.

بالمحصلة، فإن دارس الليبرالية يجد أنها دعوة إلى الإلحاد ورفض الأديان حيث لا تعترف بهيمنة الدين على الحياة الإنسانية ، فقد نمت هذه الفكرة في أجواء رافضة للدين، ومعترضة عليه، وهي تريد أن تعطي الإنسان حريته المطلقة بالتحلل من قيود الأديان والقيم والأخلاق ، فأساس الفكرة قائم على تعظيم العقل الإنساني وماديته، ولهذا ارتبطت عبارة « الفكر الحر » في كتابات الغربيين بالإلحاد والرفض للدين والقيم وعليه فإن الليبرالية لا تتفق مع الإسلام.
mmohamedjanay@gmail.com

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.