ترجمة يوسف اسحيردة
انطلاقا من كتابهما الصادر مؤخرا، يحاول أستاذا العلوم والفلسفة السياسية في جامعة بروكسيل الحرة، جوستين لا كغوا وجون يفيس بغونشيغ، في هذا الحوار المُركز الإجابة على بعض الأسئلة المتعلقة بحقوق الإنسان: ما الذي يُمكن أن نعيبه على حقوق الإنسان؟ هل هي فعلا تمهد الطريق أمام النزعة الفردانية؟ هل هي شريك للنيولبرالية؟ لنستمع إلى هذا الحوار الشيق الذي سيفضي في نهايته إلى خلاصة مهمة: لا ديمقراطية بدون حقوق إنسانية.
المجلة: كتابكما يحمل عنوان “هل ثقافة الإنسان تؤدي إلى الغباء؟” لماذا طرح سؤال كهذا؟
جوستين لاكغوا: لأن حقوق الإنسان مُتهمة بالتسبب في بعض أمراض العصر. الانتقاد المحافظ يُعيب عليها كونها تُفضي إلى فقدان الحس الجماعي وتقوم بتغذية النزعة الفردانية. انتقاد آخر، إلى حد ما يساري، يعتبر أن الحقوق الفردية لا يمكن فصلها عن هيمنة الرأسمالية النيولبرالية ومختلف أنواع الظلم الناتجة عنها.
جون يفيس بغونشيغ: بشكل متناقض، يُعاب عليها، في نفس الوقت، كونها ضعيفة، أي عدم ضمانها للمساواة بين المواطنين، ودعمها لنزعة فردانية لامحدودة، لكن أيضا كونها جد قوية وإنتاجها لتوافق يقوم بالقضاء على الخصوصيات الوطنية.
المجلة: ما هي الصلة التي تُقام عادة بين الرأسمالية النيولبرالية وحقوق الإنسان؟
جون يفيس بغونشيغ: عندما نتحدث عن اللبرالية السياسية والرأسمالية وحقوق الإنسان فنحن لا نتحدث عن نفس الشيء رغم الروابط التي تجمع بينها. فكرة الحقوق المُطلقة التي غذَّت مسار الثورة الفرنسية كانت أكثر جذرية واجتماعية من ليبرالية مُفكر كبنجامين كونستانت، الذي يُفضل الحديث عن “حرية العَصْرِيِين”. الاستحواذ عل حقوق الإنسان من طرف اللبرالية السياسية قد أخذ بعض الوقت. بخصوص النيوليبرالية، فما يُميزها هو رغبتها في أن يمنح السوق شكله للمجتمع بأكمله. في حين أن سياسة حقوق الإنسان يُمكن أن تسمح بإجراءات تأطيرية جد قوية للسوق. هذا ما يرفضه كل من ميلتون فريدمان وفريدريش حايك، اللذان يعتبران حقوق الإنسان بمثابة إكراهات ذات طابع اشتراكي تُفسد حرية السوق.
ج.ل: ليس دعاة النيوليبرالية بأنصار مُطلقين للديمقراطية. بين نظام ديمقراطي لكن اشتراكي ونظام ديكتاتوري يُمارس السوق الحرة، فحايك قد حسم اختياره: لقد ساند جنرالات الشيلي سنة 1973. من الخطأ اتهام حقوق الإنسان بتمهيد الطريق أمام الرأسمالية النيوليبرالية.
المجلة : هل حقوق الإنسان عاجزة عن ضمان العدالة الاجتماعية؟
ج.ل: الحجة تعود إلى كارل ماركس الذي انتقد إعلان 1789. ورثته سيتهمون حقوق الإنسان بأنها “شكلية”، أي أنها لم تضمن المساواة الحقيقية بيم المواطنين. ففي نظرهم، هي تُكرس صورة المُواطن، المالك، الحر في تكوين ثروة كما يحلو له، دون واجب إزاء المجتمع الذي يُحيط به. ومع ذلك، ففي إعلان 1789، نجد أن مطلب الحرية لا ينفصل عن مطلب المساواة. وهذا هو السبب الذي دفع إيتيان باليبار إلى نحت مفهوم “égaliberté” المُكون من المقطعين “مساواة” و”حرية”.
ج.ي.ب: حقوق الإنسان ليست مؤهلة من أجل إملاء تفاصيل سِيَاسَةٍ للعدالة الاجتماعية. من يُعيب عليها ذلك كمن يتهم الدراجة الهوائية بأنها وسيلة نقل سيئة لأنها لا تصعد السلالم. لكن حقوق الإنسان تُحدد شروط كل عدالة اجتماعية: الحرية والمساواة في الحقوق.
المجلة: هل وظيفتها هي الدفاع عن الفرد في مواجهة سلطة الدول؟
ج.ل: هذه قراءة اختزالية. إن اختصاصها أوسع من ذلك بكثير: فوجود فضاء عام يتوقف عليها. هي لا تهتم فقط بالدفاع عن الأفراد. بل تضمن أيضا حق تكوين جمعيات، حق التواصل، حق التعبير. من وجهة النظر هذه، حقوق الإنسان هي شرط الديمقراطية الأساسي.
ج.ي.ب: بالمناسبة، تاريخيا، لم ينجم عن إعلان 1789 تقليص لسلطات الدولة. لهذا السبب كان الليبراليون البريطانيون مُعادين لهذا الإعلان في أغلب الأحيان. بكل تأكيد، حقوق الإنسان تُشكل حماية للفرد ضد تجاوزات الدولة، لكنها لا تهدف إلى تقليص سلطاتها، أو صلاحياتها.
المجلة: هل يُمكن باسمها تبرير تقليص بعض الخصوصيات الثقافية أو الدينية؟
ج.ل: في نظري من الصعب الاعتراض، باسم حقوق الإنسانية، على وضع امرأة مسلمة لطرحة فوق رأسها. في المقابل، بمجرد ما يُصبح هناك مساس بكرامة الأشخاص، كما هو الحال بالنسبة لارتداء النقاب، لذي يغطي الوجه، يُمكن استدعاؤها من أجل إدانة هذه الممارسة. لكن في حقيقة الأمر، ليس من ضمن اختصاصات الحقوق الإنسانية معالجة هذه المسائل بشكل أتوماتيكي، لكنها تسمح بفتح نقاش حول هذه المواضيع. بعض الدُول، مثل فرنسا، تحظر ارتداء الحجاب في أماكن مثل المدرسة، ودول أخرى لا تفعل. الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان لا تمنح أجوبة جاهزة. على نفس المنوال، بعض المشتكين يلجأون إلى المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان من أجل التنديد برفض زواج المثليين في بلدانهم. لكن المحكمة دائما ما أرجأت هذا القرار إلى البلدان نفسها، مُعتبرة أن إلى هذه الأخيرة ترجع صلاحية تقرير كيفية ضمان العيش المشترك أو كيفية تعريف مؤسسة الزواج.
المجلة: هل تُمهد حقوق الإنسان الطريق أمام النزعة الفردانية، ما يعني في نهاية التحليل تضخم اللجوء إلى القانون في مسائل الأسرة والعادات والإنجاب؟
ج.ل: هناك قسم صحيح في كلامك: إنه تنامي منطق المنازعة، أي ما معناه أننا أصبحنا نُموضع أنفسنا كأصحاب حقوق في الفضاء الاجتماعي. من هنا تضخم اللجوء إلى العدالة. في نفس الوقت، هل بإمكاننا الحديث حقا عن تضخم في الحقوق؟ المجالات التي حدث فيها تقدم هي حقوق النساء والأطفال والمثليون. بالنسبة للزواج للجميع (تقصد الحركة التي يطالب من خلالها المثليون بتقنين الزواج في فرنسا)، أجد صعوبة في اعتبار أن الولوج إلى مؤسسة تُلزم أساسا بواجبات، يُمكن التنديد به باعتباره يُشكل إفراطا في النزعة الفردانية.
ج.ي.ب: بعض المشاكل التي ذكرتم ليست مرتبطة بتطور حرية الأفراد في المطالبة بحقوقٍ بقدر ما هي مرتبطة بتقدم التقنيات والمعارف، في مجال الإنجاب مثلا. إن هذه المعارف هي التي تطرح مشاكل قضائية، ولا يجب نِسبتها مع ذلك إلى تنامي نزعة فردانية مُفرطة.
ج.ل: بالإضافة إلى أنه يجب الحذر من مَثْلَنة أخلاق اجتماعية مُفترضة قد تكون عالجت هذه المسائل مسبقا دون المرور عبر المحاكم. في الحقيقة، هذا الأمر يشمل أيضا بعض أشكال الهيمنة التي مثلا تترك دون متابعة النساء عرضة للعنف من طرف شركائهن. الاستعانة بالقانون هو ربما الثمن البسيط الذي علينا دفعه في مُقابل تقدم كبير فيما يخص الاعتراف بالمساواة في الكرامة بين الجميع. منذ اللحظة التي تُوجد فيها إمكانية أمام المرء من أجل الذهاب إلى العدالة وإسماع صوته، يُصبح هناك بعض الحظ من أجل حل، من خلال القانون، ما كان يتم حله في الماضي من خلال العنف أو الإكراه.
ــــــــــــــــــ
المصدر: Sciences humaines, n°324, Avril 2020
Source : https://dinpresse.net/?p=13313