جامعات إسلامية افتراضية.. سوق سوداء تهدد الأمن الروحي للمسلمين في الغرب والعالم الإسلامي
الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
تشهد الساحة الدينية في السنوات الأخيرة ظاهرة خطيرة تتنامى بصمت في الغرب والعالم الإسلامي، تتمثل في الانتشار الواسع لما يسمى بـ“الجامعات الإسلامية الافتراضية”، وهي مؤسسات وهمية لا وجود حقيقي لها سوى في الفضاء الرقمي، لكنها تبيع الوهم باسم العلم الشرعي، وتستقطب آلاف الطلبة والباحثين عن المعرفة والدراسات الدينية.
هذه المؤسسات التي ظهرت بداية في الولايات المتحدة وأوروبا ثم زحفت إلى دول عربية وإسلامية، باتت اليوم تهدد الأمن الروحي للمسلمين من خلال ما تنشره من فوضى معرفية وتلاعب بشرف العلم.
تعمل هذه “الجامعات” من خلف الشاشات، دون أي اعتراف رسمي أو ضوابط علمية أو رقابة تعليمية، وتستغل تعطش البعض للحصول على شهادات عليا دينية أو فقهية، فتحوّل العلم إلى سلعة، والشريعة إلى مشروع تجاري، والطلبة إلى زبائن.
في هذا السوق المظلم، تُباع الشهادات مثل البضائع: شهادة الدكتوراه يمكن الحصول عليها مقابل عشرين ألف دولار، والماستر بعشرة آلاف، بينما تتراوح باقي الشهادات بين خمسة إلى عشرين ألف دولار، في مشهد عبثي لا يمت للعلم ولا للدراسة ولا لمنهجية البحث بصلة.
المشكلة الأخطر أن أغلب هذه “الجامعات” ليست مجرد مشاريع تجارية مشبوهة، بل تقف وراءها جماعات دينية مؤدلجة ذات مرجعيات متشددة تبحث عن تجنيد الأتباع وصناعة مريدين جدد يخدمون خطها الأيديولوجي. وبذلك تتحول العملية برمتها من تجارة شهادات إلى مشروع اختراق فكري منظم، يهدّد العقول قبل أن يهدد الجيوب.
ولأن هذه الجماعات تعمل في الغرب وفي مناطق الهجرة، فإن تأثيرها يصبح أكبر، إذ تستغل حاجة الشباب المسلم إلى مرجعية دينية وهوياتية، فتقدم لهم “علمًا” مشوهًا و“مشايخ” بلا علم و“فتاوى” بلا منهج ولا ضبط.
إن استمرار هذه الفوضى سيجرّ العالم الإسلامي إلى كارثة مستقبلية، حيث يمكن أن نجد أنفسنا خلال سنوات قليلة أمام طبقة كاملة من “الدكاترة الرقميين” الذين لا يمتلكون أي تأهيل علمي حقيقي، لكنهم يحملون شهادات ورقية مدفوعة الثمن ويتحدثون باسم الدين ويفتون في أمور الشعوب.
هذا التمدد لا يهدد فقط قيمة الشهادات الشرعية المعترف بها، بل يهدد بنية المعرفة الإسلامية نفسها، ويخلط بين العالم المزيف والعالم الحقيقي، ويقوض ثقة العامة في المؤسسات الأكاديمية والدينية الرسمية.
وما يزيد خطورة الوضع هو أن هذه المنصات تتحرك بحرية تامة، دون رقيب أو محاسبة، وتستفيد من فراغ قانوني في عدد من الدول، ومن غياب آليات رسمية لمراقبة التعليم الديني عبر الإنترنت.
ومع كل يوم يمرّ، تكسب هذه الجماعات مزيدًا من الأرض والطلاب والموارد، فيما الخطر يتسع ويتمدد، حتى بات يهدد صورة العلم الشرعي ومكانة العلماء، بل ويهدد الأمن الفكري للمجتمعات المسلمة في الداخل والخارج.
إن هذه الظاهرة لم تعد مجرد تجارة مشبوهة، بل أصبحت مشروعًا موازياً يسعى لتشكيل وعي ديني جديد خارج كل المؤسسات المعترف بها، ويفتح الباب واسعًا أمام التطرف والفكر المنغلق وتجنيد الأتباع تحت غطاء “التعليم الشرعي”.
وإذا لم تتدخل الجهات المختصة، من وزارات التعليم إلى المجامع الفقهية ودور الإفتاء، لحسم هذه الفوضى وإنهاء العبث، فإن العالم الإسلامي قد يجد نفسه أمام تحديات خطيرة تصعب معالجتها لاحقاً، لأن الفوضى عندما تتغلغل في مجال العلم والدين، فإن أثرها يكون أعمق وأطول عمرًا.
لقد أصبحت “الجامعات الإسلامية الافتراضية” قنابل فكرية موقوتة، تزرع الشك في العلم، وتضرب الثقة في المؤسسات، وتعبث بعقول المسلمين، وتفتح أبواب التطرف باسم الشهادة والبحث الشرعي.
إن وقف هذا النزيف واجب، ليس فقط لحماية قيمة العلم الشرعي، ولكن لحماية مستقبل الوعي الإسلامي نفسه من التزييف والتحريف.
التعليقات