زعيم الخيرالله
دَرَسَ المُفَكِّرُ الجَزائِريُّ مالك بن نبيّ مشكَلَةَ التَّخَلُّفِ في العالَمِ الاسلاميِّ وَحَلَّلَها وَأَرْجَعَها الى عناصرِ المُرَكَّبِ الحَضاريِّ الانسان ، الوقت ، والتراب) ، ثُمَّ تحدثَ عن ثُلاثِيَّةٍ أُخرى في مسار حركةِ المجتمعاتِ ونُهوضِها ، وهي ماأَسماهُ بالعوالِمِ الثلاثَةِ : ( عالم الاشياء وعالم الاشخاص وعالم الافكار).
وهذهِ العوالِمُ موجودةٌ في عالَمِ الافرادِ وفي واقعِ المجتمعات. فالفردُ الانساني عند ولادته أَول مايتعرفُ عليه هو عالم الاشياء من حوله. في البداية يتعرف على الاشياء بحواسه وبفمه ، يتلمس الاشياء ويضعها في فمه ، يحاولُ ان يفككها ليتعرفَ عليها ، ثمَّ يعيد تركيبها. ثمَّ بعد ذلك يتعرف على الاشخاص المحيطين به ويميز أُمَّهُ وأَباهُ عن الاخرين .حتى اذا نضج يلجُ عالَمَ الافكار.
وهذهِ العوالم تنطبقُ على المجتمعات ، وتكون مقياساً لتخلفها أو تحضرها ؛ فالاهتمامُ بعالَمِ الاشياءِ يعكسُ طفولَةَ هذه المجتمعاتِ. المجتمعات الاستهلاكيّةُ تستهلك في عالَم الاشياء ولاتنتج هذهِ الاشياء ، وهذهِ أَمارةٌ من أَماراتِ التخلُّفِ. الاستغراق في الملذاتِ والانهماك فيها وتوفيرها والحرص عليها ، علامة من علامات التخلف. مواجهة الأنبياء لمجتمعاتهم الوثنيّة هي مواجهةٌ بينَ عالَمِ الاشياءِ الذي تجسدهُ الوثنيّة ، ففكرةُ الاله الواحد السامِيَّةُ المُجَرَّدَةُ تَتَشَيَأ ، ينزلها الوثني من عالم الافكار الساميّ الى عالم الاشياء الهابط.
وعالمُ الاشخاص أَعلى مرتبةً من عالَمِ الاشياءِ ، ولكن مع ذلك أَنزلَهُ الوثنيون الى عالَمِ الاشياء. فيغوث ويعوق ونسر كانوا اشخاصاً صالحين أنزلهم الوثنيونَ الى عالمهم عالم الاشياء يقول الله تعالى :(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا). نوح: الاية: (23).
عالَمُ الاشخاصِ لاينقُلُ الفردَ الى مرحلةِ النضج ، وان كان أَعلى مرتبةً من عالَم الاشياء. المغالاة بالافراد والانبهار بهم يجعل الفردَ يفكر بعقلِ غيرهِ لابعقله ، ويلغي عقله وارادته ليسلم للشخصِ الذي غالى به. نعم ، من حقِ الشخص ان يُعجب بشخصٍ ؛ ولكن الاعجابَ غير الانبهار. انا في حالة الاعجاب احتفظ بعقلي وارادتي ، واعجب في فكرة يطرحها من اعجبت به ، واتحفظ على فكرة أُخرى. عالم الاشخاص يُصَنِّمُ الاشخاصَ ولايُخضِعُهم لمقاييسَ ومعاييرَ يُخضِع لها غيرُهُم. والامام علي (ع) سألَهُ رجُلٌ كان متردداً في امر الصراع في معركة الجمل بين طلحة والزبير والسيدة عائشة من جهة وبين علي بن ابي طالب من جهة اخرى ، فاعطاهُ الامامُ معياراً للتمييز وبذلك فقد نقله الامام علي (ع) من من عالم الاشخاص الى عالم الافكار.
(وينقل الدكتور طه حسين الأديب والكاتب المصري الشهير في كتابه (علي وبنوه) خبر الرجل الذي تردد في يوم الجمل في أمر علي (عليه السلام) وطلحة والزبير وعائشة، يقول في نفسه: كيف يمكن أن يكون مثل طلحة والزبير وعائشة على الخطأ؟! وشكا شكه ذلك إلى الإمام علي (عليه السلام) وسأله: أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟
فقال (عليه السلام): (إنك لمبلوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله).
في مجتمعاتنا يقيسون الفكرة بالرجال ، فاذا قبلها الرجال كانت صائبة وان رفضها كانت باطلة ؛ انهم مسجونون في عالم الاشخاص ولم يتحرروا منه. العصبيات القبلية هي سجن في عالم الاشخاص ، العصبية الحزبية وكل الوان العصبيات هي سجن في عالم الاشخاص. حتى الكتابات التي يكتبها الكاتب احيانا تُؤَيَد لاسباب القرابة والصداقة ولايستطيع القارئ ان يفصل بين الفكرةِ وصاحبها. الكاتب حينما يطرح فكرة يجب ان تقرأ هذه الفكرة بعيداً عن كاتبها ، تحلل ، تنقد ، تسدد ، يضاف اليها ، يبين نقاط ضعفها ونقاط قوتها.
ولكن للاسف نحن لانجد قراء يقرؤون بعقلٍ نقدي ، يسدد الكاتب ويثري مقاله. نحن اسرى لعالم الاشخاص ؛ وهذا يؤدي الى قتل الافكار واماتتها. الكاتب عليه مسؤولية ، وهي ان يقول الحق ؛ فالكلمة مسؤولية ، لاينطلق من عقدة وكراهية ، القران الكريم يحررنا من عالم الاشخاص كما في قوله تعالى : (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).المائدة: الاية: (8). فالعدلُ قيمةٌ ينبغي ان نمارسها حتى مع اعدائنا . هذه نُقلةٌ ينقلنا اياها القران الكريم من عالم الاشخاص الى عالم الافكار(العدل).
الانهماك في عالم الاشياء وعالم الاشخاص علامة من علامات تخلف مجتمعاتنا ، ولاتنهض مجتمعاتنا الا بعد نضجها ودخولها في عالم الافكار. الافكار عبر التأريخ هي التي كانت وراء نهوض المجتمعات وتقدمها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13128