تغوّل خوانجية تونس درْس للمغاربة

سعيد الكحل
آراء ومواقف
سعيد الكحل27 يوليو 2021آخر تحديث : الثلاثاء 27 يوليو 2021 - 3:27 مساءً
تغوّل خوانجية تونس درْس للمغاربة

سعيد الكحل
تمر تونس بمعطف تاريخي خطير ، بل هو الأخطر وفق ما جاء في كلمة الرئيس قيس سعيد (نحن نمر بأدق اللحظات في تاريخ تونس ، بل بأخطر اللحظات ولا مجال لأن نترك لأحد أن يعبث بالدولة وبمقدراتها وأن يعبث بالأرواح والأموال وأن يتصرف في الدولة التونسية كأنها ملكه الخاص ). وضْع فرضه تغول حركة النهضة وهيمنتها على مؤسسات الدولة بعد أن صارت دولة داخل دولة ، تملي على الجميع قراراتها وتفرض عليهم اختياراتها.

لم يتفطن التونسيون إلى هذا التغول إلا بعد أن تجاوز المدى وخلق وضعا جعل الدولة بكل مؤسساتها رهينة بيد حركة النهضة. لقد اعتمد خوانجية تونس إستراتيجية الاختراق التدريجي لمؤسسات الدولة في أفق التمكين والتحكم في كل دواليبها.

لهذا لم يواجهوا مطالب الأحزاب عند تشكيل حكومة “التروكيا”( حركة النهضة وحزبي “المؤتمر من أجل الجمهورية” و”التكتل من أجل العمل والحريات”) بالتعنت كما لم يمارسوا الإقصاء أو الانفراد بالمناصب الدستورية الحساسة.

لم يفعلوا هذا قناعة منهم بضرورة إرساء أسس “الديمقراطية التشاركية” وبناء الدولة الديمقراطية ، وإنما فعلوه تحايلا وتكتيكا تجنبا لأية مواجهة مباشرة مع الأحزاب والشعب معا . كانوا يدركون أن أي تصادم أو تعنت سيفسد إستراتيجيتهم الرامية إلى الهيمنة على الدولة ومؤسساتها.

هكذا قبلوا على مضض التنصيص دستوريا على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة (حركة النهضة تقول بالعلاقة التكاملية)، ومدنية الدولة ، وحرية الاعتقاد ، وعدم الإقرار بأن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي من مصادر التشريع ، كما قبلت باستقالة حكومة الترويكا التي كان يقودها حمادي الجبالي وتنصيب حكومة تقنوقراط.

لكن خلف هذه “المرونة” المزيفة كانت تصدر ، من حين لآخر، عن راشد الغنوشي تهديدات مباشرة للدولة وللأحزاب السياسية ، ومنها تهديده حين قرر حمادي الجبالي تشكيل حكومة تقنوقراط في فبراير 2013 ، بأن “تمزيق النهضة أو إقصاء النهضة بالقوة أو بالحيلة عن الحكم بتونس (..) لا يمثل مصلحة لتونس وإنما يعرض الوحدة الوطنية وأمن تونس للخطر”. تهديدات الغنوشي ستتحول إلى فعل مادي مع انتخاب قيس سعيد رئيسا لتونس ومحاولته ردع أطماع حركة النهضة في إخضاع رئاسة الجمهورية لتوجيهاتها.

هكذا سيقرر الرئيس إعلان نفسه قائدا أعلى للقوات المدنية الحاملة للسلاح؛ الأمر الذي اعتبرته حركة النهضة “دوسا” على الدستور وقوانين البلاد، وتعد على النظام السياسي وعلى صلاحيات رئيس الحكومة. بل اتهمت الرئيس ، في بيان حاد بالنزوع “التسلطي لرئيس الدولة”. وكانت هذه القضية القشة التي قسمت العلاقة بين الرئيس والغنوشي. إذ يعود أصل المشكل إلى عزم الرئيس قيس سيعيد فتح ملفات الفساد التي تتعلق بتلقي تمويلات أجنبية وتبييض الأموال وشبهات التخابر مع جهات خارجية تهم قيادات حزبية ونوابا ورجال أعمال؛ بحيث لم يكن يترك فرصة إلا وشدد عليها في خطبه.

بهذه الخلفية ، رفض قيس سعيّد التعديل الوزاري الذي أجراه رئيس الوزراء التونسي هشام المشيشي الموالي لحركة النهضة، بحجة أنه يخالف الدستور الذي يقضي التشاور في التعديل،من جهة ، ومن أخرى، أن بعض الوزراء الجدد تدور حولهم شبهات فساد وتضارب مصالح.

فضلا عن هذا، فإن هشام المشيشي أقال وزير الثقافة المقرب من الرئيس بسبب تصريحاته التي هاجم فيها إجراءات الحكومة لمواجهة فيروس كورونا، وبعده بأشهر قليلة جاء الدور على وزير الداخلية توفيق شرف الدين، المقترَح من رئيس الجمهورية وأحد أهمّ القائمين على حملته الانتخابية سنة 2019.

استفحلت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتفشت جائحة كورونا التي خرجت عن السيطرة ، بحيث سجلت تونس أعدادا جد مرتفعة من الإصابات والوفيات ( يوم 6 يوليوز تم تسجيل 9823 إصابة و134 وفاة نتيجة كورونا، يوم 24 يوليوز تم تسجيل 4105 إصابة جديدة بكورونا و204 حالة وفاة )، وعجزت الحكومة عن توفير اللقاح بالكمية المناسبة، إذ لم يتلق سوى 4 بالمائة من السكان اللقاح بالكامل البالغ عددهم حوالي 12 مليون نسمة.

وضعية صحية كارثية قالت عنها نصاف بن علي المتحدثة باسم وزارة الصحة التونسية في تصريح لراديو موزاييك ( إن المنظومة الصحية في البلاد انهارت مع امتلاء أقسام العناية الفائقة وإرهاق الأطباء والتفشي السريع لجائحة كورونا.. نحن في وضعية كارثية.. المنظومة الصحية انهارت.. لا يمكن أن تجد سريرا إلا بصعوبة كبرى.. نكافح لتوفير الأكسجين.. الأطباء يعانون إرهاقا غير مسبوق).

أمام هذه الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تهدد استقرار تونس ، لم يجد الرئيس قيس سعيد بدا من اتخاذ سلسلة من القرارات أهمها:
– إعفاء رئيس الحكومة السيد هشام المشيشي،
– تجميد عمل واختصاصات المجلس النيابي لمدّة 30 يوما،
– رفع الحصانة البرلمانية عن كلّ أعضاء مجلس نواب الشعب،
– تولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية لمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة ويعيّنه رئيس الجمهورية.

قرارات أخرجت حركة النهضة من جحرها وأسقطت عنها قناع “الوطنية والوحدة والحوار” ، بحيث دعت أتباعها إلى احتلال الشوارع والساحات العمومية واقتحام مقر البرلمان، في خطو لتعطيل مرافق الدولة والدفع بالأوضاع إلى الانفجار. بينما أصر الغنوشي على التحاق النواب بالبرلمان لمزاولة مهامهم في تحد صارخ لقرارات رئيس الجمهورية؛ الأمر الذي كشف عن حقيقة الصراع حول مؤسسة الأمن التي ترفض حركة النهضة إخضاعها لرئاسة الجمهورية.

الأمر الذي ينبئ بخلق وضعية سياسية برأسين يتجاذبان الشرعية: سلطة رئيس الجمهورية وسلطة رئيس البرلمان، خصوصا بعد تدوينة راشد الغنوشي ” هذه الإجراءات باطلة وسنواصل العمل بمجلس نواب الشعب”، وكذا تدوينة رفيق عبد السلام ، القيادي بحركة النهضة ضد الرئيس”هذا دكتاتور مجنون بالسلطة فلا تتركوه يمر”.

وما سيزيد الأوضاع تعقيدا غياب محكمة دستورية يحتكم إليها طرفا الصراع ؛ الأمر الذي ستستغله حركة النهضة لتجييش أتباعها وأذرع حركة الإخوان المسلمين لإعلان “الثورة” ضد الدولة.

وفي هذا الإطار تأتي فتوى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فجر يوم الاثنين 26 يوليوز 2021، بحرمة الاعتداء على العقد الاجتماعي الذي اختاره الشعب التونسي ، ومطالبة الرئيس قيس سعيّد بالتراجع عن قراراته التي اعتبرها انقلابا مدنيا وعسكريا ، متهما ” قوى في الخارج تريد العودة إلى الوراء والتوقف عن هذه التجربة الناجحة في تونس وهو مخالف لإرادة الشعب”.

ومن شأن هذه الفتوى شرعنة العصيان الذي أعلنه الغنوشي وتمرّده على قرارات الرئيس ، ومن ثم وجوب مناصرة حركة النهضة في كل قراراتها المهددة لكيان الدولة .

ما ينبغي لنا في المغرب استخلاصه من الأزمة التونسية هما أمران اثنان:
أولهما: أن تنظيمات الإسلام السياسي لا تتنازل عن طلب السلطة والحكم إلا اضطرارا ، ولا تقبل بالحلول الوسطى إلا مكرا وتربصا بلحظة الانقضاض .

ثانيهما: أن اختراق مؤسسات الدولة والتغلغل في مفاصلها ودواليبها هو تكتيك تمليه إستراتيجية التمكين والهيمنة على الدولة والمجتمع .

لهذا، على الشعب المغربي أن يستحضر الأزمة التونسية التي تسببت فيها إعادة التصويت لفائدة مرشحي حركة النهضة في الانتخابات التشريعية، وظل التونسيون يلدغون من نفس الجحر ثلاث مرات.

ولا يختلف إسلاميو المغرب عن إسلاميي تونس في تبني نفس الإستراتيجية واعتماد نفس التكتيك ؛إذ لولا قوة الدولة المغربية بمؤسساتها الدستورية لكان وضعنا، لا قدر الله، أسوأ من الوضع التونسي.

حمى الله تونس وشعبها من الدمار الذي أعده الخوانجية هناك ووقى المغاربة شر اللدغة الثالثة.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.