بقلم: عبد الخالق حسين
رحم الله الأستاذ اللامع سعيد الجديدي وأسكنه الفردوس الأعلى بجوار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد رافقناه منذ طفولتنا، كل يوم من على شاشة القناة التلفزية الوطنية، وهو يلقي نشرة الأخبار باللغة الإسبانية. كانت طلعته ملهمة لجيلي، تبث قيم التفوق والانفتاح على الثقافة الغربية، إضافة إلى جمالية الحضور، والتمكن، والمهنية العالية.
وقد علمت فيما بعد أن الأستاذ سعيد كان مشتغلا على ورش فكري كبير، هو ترجمة الكتب الدينية الإسلامية إلى اللغة الإسبانية، أي أنه كان من الدعاة إلى الإسلام في الفضاء الإيبيري.
إنني أرى أن لحظة التعزية في وفاة هذا الهرم الإعلامي المغربي الكبير فرصة لأخاطب بعض المثقفين الذين يعتقدون أن شرط “معانقة الحداثة” هو الاستخفاف بالتراث الإسلامي، أو التقليل من قيمته وجاذبيته في قلوب المسلمين، أو التشكيك في ثبوته وتقويض شرعيته التاريخية.
فبعض الأصوات الحداثية تتصور أن باب الحداثة لا يُفتح إلا بنقد “صحيح البخاري”، أو مهاجمته، أو الطعن في تفاسير القرآن الكريم، أو الاستهزاء بالتراث الصوفي وتبخيسه، أو تبني منهج الشك والتفكيك تجاه أمهات كتبنا التراثية.
لكن الإعلامي الألمعي سعيد الجديدي قدّم جوابا عمليا على هذه الأطروحات، بشخصيته وأسلوبه ومساره في الحياة والتفكير. وكأنه يخاطب هؤلاء قائلا: “ها أنا مثقف مغربي مسلم وطني، أُجيد لغة الغرب، وأفكر بمنطقهم، وأكتب بلسانهم، وأجول في ثقافتهم وتاريخهم، دون مركب نقص أو انهزامية، ومع ذلك عشت فخورا بهويتي المغربية وعقيدتي الإسلامية. بل عاهدت نفسي أن أخدم ديني وحضارتي، فحاضرت ودافعت عن الإسلام من داخل الحضارة الغربية، واجتهدت في تقريب الثقافة الإسلامية ومبادئ ديني للعقل الغربي، فترجمت ما رأيته ضروريا لفهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودفع الشبهات عنه، وتوضيح رسالة القرآن الكريم وتقريب تعاليمه”.
لقد قدّم الأستاذ سعيد الجديدي نموذجا حيا لما يمكن أن نطلق عليه “الأنموذج المغربي في التدين”، حيث يجمع بين التمسك بالدين، والاعتزاز بالحضارة، والانفتاح على الحكمة العالمية، والاندماج الواعي في السياقات المعاصرة، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
لقد ترجم رحمه الله كتبا إسلامية من تراثنا العظيم، دون اعتذار أو خجل، وكأن لسان حاله يقول: “هذا ديننا ونحن فخورون بمبادئه وشرائعه”.
ويُذكر أيضا أن تجربة صوفية خاصة أسهمت في صقل شخصيته؛ فقد كان من مريدي الزاوية الكتانية، ومن ينهل من معين التصوف بأخلاقه وتزكيته يكون قدوة لغيره، لأنه تشرّب من القدوة الحية، ومن الذكر الذي يحيي القلوب.
وما فتئ مولانا أمير المؤمنين يؤكد على التمسك بالتربية الصوفية، وإحياء ليالي الذكر والمذاكرة، والاقتداء بأخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الرسالة السامية الموجهة إلى العلماء بمناسبة مرور خمسة عشر قرنا على ميلاد النبي الكريم. تلك التوجيهات تهدف إلى تعزيز ثوابتنا الدينية التي تُثمر المواطن المغربي المتميز، الجامع بين التدين الوسطي والانفتاح على الحكمة الإنسانية التي تتوافق مع الفطرة.
ومن الواجب أن تحتفي وسائل الإعلام والجامعات بشخصية الإعلامي سعيد الجديدي رحمه الله، وأن تسلط الضوء على معالم تربيته، وملامح شخصيته، ومشارب ثقافته، ومراحل تجربته. كما ينبغي التعريف بترجماته وإبداعاته، مع التركيز على مسيرته الفكرية في الدفاع عن الوطن والدين والحضارة، ليكون قدوة معاصرة تستضيء بها أجيال المستقبل في درب النهضة المغربية الشاملة.
رحم الله الأستاذ سعيد الجديدي وأسكنه فسيح الجنان.