عبد الله الجباري
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.
كثيرا ما نسمع بالدعوة إلى تطبيق الشريعة، أو نسمع بكائيات تندب حظ المغرب لكونه لا يطبق الشريعة، وقبل أيام نشر أحد شيوخ “السلف المعاصر” شريطا حول تعديل مدونة الأسرة، وخصصه للبكائية ذاتها، وضمنه عدة مغالطات، منها أن المغرب لا يطبق الشريعة في أي مجال، والقانون الوحيد الذي يستند في مرجعيته إلى الشرع هو المدونة.
فهل فعلا وقعت القطيعة بين المغرب والشريعة إلى هذا الحد؟
بالرجوع إلى أصحاب هذه البكائيات، نجدهم لا يكادون يقدمون المثال لهذه القطيعة إلا من خلال القانون الجنائي، وإذا عمقنا معهم النقاش فإنهم لا يتجاوزون الحديث عن الحدود الشرعية.
والواقع أن “السلف المعاصر” يقدمون المغالطات تلو المغالطات. فالقانون المغربي ليس متعارضا وليس في حالة تناقض وتنافي مع الشرع الحنيف. والأمثلة على ذلك متكاثرة.
ففي القانون المغربي نجد التنصيص على الهبة والعمرى والشفعة وغيرها من القضايا التي لا تجد لها أصلا ومرجعية إلا من خلال الفقه الإسلامي. إضافة إلى البيع والكراء وغيرهما من العقود.
وفي القانون المغربي تجد في وسائل الإثبات الشهود والاعتراف، وهذا من الفقه الشرعي، وتجد فيه شهادة اللفيف أيضا، وهي وسيلة من إبداع قدامى الفقهاء، وليست مستوردة من فرنسا أو غيرها.
وفي القانون المغربي صرامة في التعامل مع الإجهاض، رغم أني لا أتبناها، وهذه الصرامة مستقاة من الشرع وليست مستوردة من فرنسا.
ونظرا لأهمية الشرع والفقه في القانون المغربي، فإن كليات الحقوق تبرمج للطلبة موادا مثل مدخل لدراسة الفقه، والمواريث، والمدونة، وغيرها من المواد ذات الصلة. بل لا تكاد تجد قاضيا أو ملحقا قضائيا إلا ويراجع التحفة لابن عاصم وشروحها، ويستفيد منها كثيرا.
نعم، في القانون مباحث جديدة، لكنها ليست متعارضة مع الشرع، مثل قانون السير، والعلاقات الدولية والديبلوماسية، والقانون البحري، وغيرها.
وحتى بعض القضايا القديمة وقع تطويرها دون أن يكون ذلك التطوير مضادا للشرع، فالدية مثلا في القتل كانت من قوانين الجاهلية، وأقرها الإسلام، ولكنها كانت من واجبات العاقلة، فأين العاقلة الآن حتى نفرض عليها الدية، هنا انفتح المغرب على القوانين الحديثة، وفرض التأمين أثناء السياقة، وألزم شركات التأمين بالدية، فصار المؤمّنون بمثابة العاقلة، وهذا لا يتعارض مع الدين في الجوهر.
ووسائل الإثبات وقع تطويرها ولم تبق المحاكم حبيسة الاعتراف والشهود، بل أضفنا إليها التصوير بالكاميرا بعد الخبرة، والنفخ في أنبوب لمعرفة نسبة الكحول، وغيرها من الوسائل، وهذا لا يتعارض مع الشريعة.
تتضمن الشريعة القصاص في القتل، وهو الإعدام، والقانون المغربي ينص على الإعدام، وأمنيتي أن يحذف من القانون، لأن الدولة غير الديمقراطية يصعب تمكين أجهزتها من العقوبات السالبة للحياة، لأنها قد تستعمله في غير محله وبغير ضوابطه، لذا كان إلغاؤه أولى وأجدى.
بقيت مسألة الحدود الشرعية، والحديث عنها لا يتجاوز التشغيب، وينطبق عليها مقولة كلمة حق أريد بها باطل. لأن الحدود الشرعية في الغالب لا تطبق، بل يكاد تطبيقها يُصَنّف في خانة الاستحالة، لذا كان تضمينها في القانون من عدمه سيان، بل عدم تضمينها أفضل وأحسن، لأنها عقوبات قاسية، ومن الأفضل ألا تكون في أيدي الدولة غير الديمقراطية، لأنه سيقع قطع يد غير الوجيه، ولن يقطع يد الشريف، كما أن تلفيق التهم ذات الصلة بالأعراض من اليسير أمره، فستكون ذريعة لجلد الناس، وظهرُ الإنسان لا يستباح إلا بيقين كما قال القرافي.
نعم، هناك مخالفات شرعية واقعة في الأمة منذ القرون الفاضلة، وهي مازالت إلى اليوم، فالخمر كان يباع في الدولة الأموية وغيرها، وكان الأمراء الأمويون والعباسيون وغيرهم يشربونه، بل حكي ذلك عن معاوية مؤسس الملك العضوض، وكل هذه الموبقات لم تجعلنا ننفي صفة الإسلامية عن الدولة، وما يقال عن الخمر يقال عن جرائم الأعراض، فالزنا كان رائجا في كل العصور، ولم ينقطع ولن ينقطع، وكان الحكام ــ ومنهم خلفاء ــ يسوغونه بصيغ متعددة كملك اليمين وما هو ملك يمين، والأمر نفسه يقال عن الربا.
ودولتنا المعاصرة ترخص لبيع الخمور وللربا، وهذا من السلبيات التي لا تسوغ لنا أن نزعم بأن القانون كله يتعارض مع الشرع، وإن كنا نحلم ونطمح ونطمع بحذف هذه السلبيات من المنظومة التشريعية، وقد كان العلامة علال الفاسي مناهضا للربا ومؤسساته، وقدم مقترحات مهمة في هذا الباب.
أما الزنا، ففيه أقوال.
القول الأول: هناك نصوص قانونية تحظر الممارسة وتجرمها. وهذا جيد. وهناك حملات لتمشيط الأماكن المشتبه فيها.
القول الثاني: هناك ممارسات مشينة في أماكن معروفة قد لا تصل إليها الحملات التمشيطية، وقد لا تخضع للقانون إلا بنسب ما.
القول الثالث: هناك من استُغلت هذه القوانين ضده في إطار تصفية حسابات ما، فذهب إلى السجن مثل عمر الراضي وسليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين ورشيد غلام وغيرهم،
بناء على هذا، قد لا أتخذ موقفا سلبيا ممن يدعو إلى حذف المواد القانونية ذات الصلة بالزنا من المنظومة القانونية المغربية، خصوصا إذا ثبت استغلالها والشطط في استعمالها. وأستحضر هنا قول النبي الأفخم صلوات ربي وسلامه عليه: إنما هلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد.
بناء على ما سبق، فإن دعوى أن المغرب لا يطبق الشرع وقوانينه متعارضة مع الشرع، هي مجرد بكائية لا مصداق لها في الواقع، وأن المغرب كغيره من الدول عبر التاريخ، يطبق الشرع في جزء من قانونه، ويُخضع جزءا منه للاجتهاد، وينفتح على الغير في إطار المشترك الإنساني والقانون الدولي، وتقع فيه ممارسات غير شرعية ومخالفة للشرع كما وقعت في دول الخلافة بتعدد أسمائها وعناوينها.
والله أعلم.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=19208