محمد زاوي
هناك خيط دقيق فاصل بين التصوف المتصل والدجل المنفصل، ولا يميزهما إلا عارف؛ وهذا في فهمنا من وقف عند حدود العلم، وبعدها عند حدود الفلسفة، لينجو من حدوده بالغوص في اللانهائي.. وهنا يبدأ العرفان.
العارف بهذه الخصائص وحده قادر على إخراج التصوف من ركام بشري أنثروبولوجي وتاريخي من الدجل، وحده قادر على فصل الوجدان عن “أصل التدين” نفسه، أي عن “الدين” بما هو ظاهرة وجدانية ما التاريخية..
إن وصله بالوجدان/ العرفان/ أصل الأصول لا يتحقق إلا بالفصل المذكور، في ذلك خلاصه وخلاص الدين من الدين نفسه، دين العرفان من دين الأنثروبولوجيا، بعد أن يكون قد خلّص دين الأنثروبولوجيا من دين التاريخ..
هذه توطئة مقتضبة لا بد منها للإجابة على سؤال: أتستثمر الدولة في التصوف أم في الدجل؟
إن استثمار الدولة يفرغ الوجدان في قنوات السياسة، لكنه لا يَنفيه ولا يُنهيه.. فلما كان الوجدان مطلبا لنجاعةٍ، كان حفظه واجبا ومن صميم هذا المطلب.. وهذا دخول خاص في غمرة التاريخ، وخوض لمعركته من موقع الوجدان..
وهكذا يضيع “فعل في الزمن” بضياع “ورد في خلوة”، فتتدخل الدولة/ “الفاعلة في الزمن” لحفظ الورد أو لنقله إلى من هو/ هم أهل له. وإنها بتدخلها هذا لا تكتسب فعلا في “عالم الوجدان” إلا بما يحفظه لـ”عالم الزمن”.
هذا حديث عن وجدان قائم فضاع، عن تصوف وصل فانقطع.. أما إذا كان الواقع خلطا بين “تصوف ودجل”، بين “وصل وقطع”، بين “تدبر وتدبير”، بين “زهد وتملك”، بين “كشف وانكشاف”، أو إذا كان خروجا عن منطق “التصوف والوصل والتدبر والزهد والكشف” -في باطن أو في ظاهر وباطن معا-؛ إذا كان الأمر كذلك، فإن تدخل الدولة لا يعدو أن يكون “فعلا في زمن” و”تدخلا في تاريخ”، ولا يُخاف فيه مسّ بوجدان، فقد غاب عن “مدَّعيه” قبل أن تنفذ فيهم صرامة التاريخ وضرورة السياسة العامة..
تغترب الطرق العرفانية أول اغترابها بمجرد خروجها عن “منطق الفرد”.
إن وظيفتها التربوية الاجتماعية، بقدر ما هي استجابة لحاجة في الناس وخيرية تُطلب لهم، بقدر ما هي محاولات وصلية بمعنى خاص لا يبلغه العارف إلا مرة واحدة، ولا يحتمل تعدد العارفين.. فلكل معنى عارف، ولكل عارف معنى..
وظيفة الطرق تربوية إذن، اجتماعية سياسية في التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية التي تنشط فيها، في بنية الإنتاح التي تعيش وتتغذى من إنتاجها وفائض قيمتها.. طرق هذا ديدنها، وهذا اغترابها الأول، ناهيك عن أنواع أخرى من الاغتراب تخترقها بقيادة في المادة أو “الروح”؛ طرق كهذه يجب أن “تخفض الجناح” لسلطة التاريخ وسيطرة السائد فيه اجتماعيا وسياسيا وفكريا.. وإنها إذا ما همّت بممانعة لوجدان، فلا يكون ذلك إلا وهما تغطي به “ممانعة لمصلحة في الواقع الملموس”.
إن الصوفية التي لا تعرف هذه الحدود صوفية ناقصة ومنقطعة في كثير من أحوالها..
ليس شرطا في الصوفية أن تتجاوز الحدود تاريخا، بل كل شرطها أن تتجاوزها وجدانا وإن لزمتها تاريخا.. ومن لا يعرف حدوده في تاريخٍ قد يجعل منها وجدانا خاصا وما هو كذلك، وإنما هو مجرد “قيود في التاريخ” استحالت بـ”الفعل في الزمن” رموزا وأورادا وحركات وطقوسا، وظواهرَ للدارسين لا بواطنَ للعارفين..
إن تصوفا كهذا لا يعذر بجهله للتاريخ ولا انقطاعه به عن حقائق الوجدان، فإذا جاءه أمر “النظام العام” فليمتثل ما دام لا وجدانا يرعى ولا تاريخا يعرف.
ولا تعارض بين تاريخٍ ووجدانٍ إلا في مجال التاريخ، أما الوجدان فلا تحده حدود، وفيه السرّ الأكبر والأسرار الكبرى تتحد البشرية في كشفها بالعلوم والفلسفات وطرق العرفان.. كلها سبل لهذه الأسرار، فكشف العالم ليس حكرا على أحد!