د. حمزة النهيري
هل الخطاب متوجه إلى البائل أم إلى غير البائل وتأكيد ابن حزم على أن خطاب النهي متوجه إلى خصوص البائل المباشر لا غيره وهو فعل حرام عند المباشرة غير حرام على البائل غير المباشر، أما حكم الماء المتنجس فهو غير طاهر إذا تغير وصفه وطعمه عند ابن حزم سواء كان التنجس من ماء مباشر او غير مباشر فيه فعل التبول).
سبق لي أن دونت مقالات أشير فيها إلى أن الدرس الفقهي اليوم معني بتدبير الخلاف من جهة الفعل الأخلاقي لا من جهة تقرير وجود الخلاف من عدمه.. فالخلاف والاختلاف واردان في الشريعة أصولا وفروعا، وهو مايدل على سماحة الشريعة وسعة أحكامها بما هو يسر على المكلف.
وكثير من المسائل حكى فيها الايمة الإجماع ولا إجماع فيها، والاستدراك الفقهي بينهم قائم لا مشكلة فيه، إنما المشكلة في تدبير الخلاف وسؤال الأخلاق في تدبيره الذي قل وجوده.
فتدبير الخلاف الفقهي – إذن- متعلق أصالة بسؤال الأخلاق وليس معنيا بالخلاف الفقهي نفسه.
ومن ذلك أن الخلاف الفقهي إذا جرى بين اثنين في مجلس بينهما لم يكن من الأخلاق التشهير باسم المخالف أمام العلن لنصرة قضية فقهية ما، إذ كان يكفي التعريض والابهام في ذكر المخالف كأن يقال مثلا- في حديث لي مع بعض الفضلاء من أهل العلم – او عبارة نحوها كما علمنا مؤدب البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يقوم بتصحيح الأفعال والاعمال فكان يعرض بالقول بعبارة ما بال أقوام اللهم إن كان الخلاف علنيا فلابأس حينئذ.
وفي الفقه المقارن والخلاف الفقهي عموما نسبت أقوال إلى الايمة وهم منها براء، فقد نسب إلى الحسن البصري وعطاء وبعض الأيمة أقوال وهم براء منها، والتحقيق الفقهي يقتضي من الباحث تدقيق القول في نسبة الأقوال وتوجيهها الوجهة الصحيحة اللائقة بها.
وقد جرى في كتابي المنهج الأصولي للإمام أبي بكر الباقلاني تحقيق بعض الأقوال الأصولية المنسوبة إليه كمسألة التكليف هل هو طلب ما فيه كلفة أو إلزام ما فيه كلفة وبينت رأيي في مذهب الباقلاني ورددت على الدكتور أبوزنيد-حفظه الله-فيما اختار نسبته إلى الباقلاني لأنه محرر في مقدمة التحقيق.
ومن ذلك أيضا نسبة القول بفناء النار إلى شيخ الإسلام ابن تيمية من أفاضل وهم بلاشك مخطؤون لأن رسالته بينت نفي ذلك القول منه رحمه الله وما أشار إليه ابن القيم في كتابه لايفهم منه نسبة القول بفناء النار(وهي مسألة كلامية نناقشها فيما بعد بحول الله تعالى).
ومثل ذلك أيضا ما نسب إلى الإمام الطوفي من كونه يقدم المصلحة على النص مطلقا، وإنما هو يقدم المصلحة على النص الظني في باب المعاملات كما نص على ذلك في شرح الأربعين.
ومن المسائل التي جرى الخلاف فيها قديما نسبة القول بجواز الوضوء في ماء لايجري صب فيه البول من قارورة إلى ابن حزم!! (كما هو تعبير المعاصرين)
وهو فهم قبيح عن الإمام ابن حزم وبيننا وبين من يدعي عليه هذا الكلام كتبه ونصوصه.
والسبب في ذلك نبهت إليه مرارا وكرارا وهو أن الظاهرية ليست ابن حزم !!
فماينسب لداود الظاهري ليس قولا لابن حزم.
فالمذهب الظاهري يحرم التقليد وينبذه مطلقا، وهي نظرية في المعرفة قائمة على ابتغاء اليقين ولأجل ذلك نفوا القياس الفقهي لأنه غير منتج لليقين وتمسكوا بدلالة الظواهر لأنها كافية في الدلالة على كل مسألة من جهات نصية متعددة كالعموم أو الاطلاق..
ولذلك فهذه المسألة من تشنيعات الفقهاء على الظاهرية وتشنيعات بعضهم على بعض، فقد نسبوا إلى الإمام مالك جواز إتيان المرأة في الدبر كما أشار الجصاص في كتابه وهو خطأ، لأن مالكا لو قال بذلك لنص عليه ولحكاه عنه أصحابه العارفون بمذهبه كابن القاسم.
و لذلك نجد أقوالا تشاع عن الايمة وهم غير قائلين بها أو غير قائلين بلوازمها، فقد حكى النووي مسألة البول في الماء الراكد ونسبها لداود بصيغة التمريض، وجواز الوهم على الايمة في نسبة الأقوال وارد لايستثنى منه أحد لا ابن تيمية ولا الشوكاني.
وتحقيق المسألة في بطلان هذا القول هو أن ننقل أقواله وندرسها ليتبين لنا عدم صحة هذا الزعم الذي يشنع به خصومه عليه.
إذ الماء الطاهر المطهر الذي يجوز الوضوء به عند ابن حزم مالم يتغير طعمه ووصفه.
(افتح كتاب المحلى طبعة دار الآفاق 1/ 35 المسألة رقم 136):
وكل شيء مائع من ماء أو زيت أو سمن أو بان أو ماء ورد أو عسل او مرق او طيب أو غير ذلك- أي شيء كان- إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء حرام يجب اجتنابه او ميتة
فإن غير ذلك لون ما وقع فيه او طعمه او ريحه فقد فسد كله وحرم اكله ولم يجز استعماله او بيعه. فإن لم يغير شيئا من لون ماوقع فيه ولا طعمه ولا من ريحه فذلك المائع حلال أكله وشربه واستعمال-إن كان قبل ذلك كذلك – و الوضوء حلال بذلك الماء والتطهر به في الغسل أيضا كذلك، وبيع ماكان جائزا بيعه قبل ذلك حلال.. إلا أن البائل في الماء الراكد الذي لايجري حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره وحكمه التيمم إن لم يجد غيره.
وذلك الماء حلال شربه له ولغيره إن لم يغير شيئا من أوصافه، وحلال الوضوء به والغسل لغيره
فلو أحدث في الماء أو بال خارجا ثم جرى البول فيه فهو طاهر يجوز الوضوء منه والغسل له و لغيره إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئا من أوصاف الماء فلايجزئ حينئذ استعماله أصلا لا له ولا لغيره. انتهى
فمعنى الكلام الذي استشكله البعض هو أن ابن حزم يرى أن الأصل في الماء الطهارة حتى لوأحدث او بال خارجا فهما سيان عنده مالم يغير البول شيئا من أوصاف الماء.
ومدار نقاش ابن حزم هو في مفهوم التنجس والماء الطاهر يبقى طاهرا حتى يطرأ عليه ما ينجسه.
وهو ما نص عليه بقوله: لا نجاسة إلا ماظهرت فيه عين النجاسة ولايحرم إلا ماظهر فيه عين المنصوص على تحريمه.
ثم ينتقل إلى بيان حكم البائل وغير البائل، فمن يريد أن يحاكم ابن حزم في المسألة فعليه أن ينقل قوله هذا الذي يصرح فيه بالحكم في المسألة
قال ابن حزم 1/140 :
“فأما حكم البائل.. فلو أراد أن ينهى عن ذلك غير البائل لما سكت عن ذلك عجزا ولا نسيانا ولا تعنتا لنا بأن يكلفنا علم مالم يبده لنا من الغيب. ”
هذا النص يبين بجلاء أن ابن حزم رحمه الله لا ينازع في كون الماء الذي لا يجري إذا تغير ببول غير المباشر أنه لا يجوز الوضوء به.. بل هو ينازع في افتراض الفقهاء لمسألة غير واردة أصلا ولا تخطر في خطاب صاحب الشريعة حين نهى عن التوضؤ والاغتسال بالماء الدائم الذي لا يجري.
وقد علق العلامة احمد شاكر على كلام ابن حزم ونسب كلام النووي لابن حزم وإنما هو منسوب لداود.
وبتتبع كلام ابن حزم بجد المنصف أنه سينكر عليهم أخذ الحكم من دلالة المفهوم وهو نوع من القياس الذي ينكره.
قال ابن حزم مبينا ان النهي المقتضي التحريم مخاطب به البائل المباشر وليس غير المباشر:
وأظرف شيء تفريقهم بين الماء الجاري وغير الجاري فإن احتجوا في ذلك بأن الماء الجاري إذا خالطته النجاسة إذا انحدر فإنما ينحدر كما هو وهم يبيحون لمن تناوله في انحداره فتطهر به أن يتوضأ منه ويغتسل ويشرب والنجاسة قد خالطته بلاشك، فوقعوا في نفس ما شنعوا وأنكروا، فإن قالوا لم نحتج في الفرق بين الماء الجاري وغير الجاري إلا بالنهي إنما ورد عن الماء الراكد الذي يبال فيه قلنا صدقتم، وهذا هو الحق وبذلك الأمر نفسه في ذلك الخبر نفسه فرقنا نحن بين ماورد عليه النهي وهو البائل وبين من لم يرد عليه النهي وهو غير البائل ولا سبيل إلى دليل يفرق بين ما أخذوا به من ذلك الخبر وبين ماتركوا منه.
وقال أيضا مبينا وجه خلافه مع الفقهاء في ورود الخطاب لخصوص البائل المباشر لا غير المباشر المفترض عند الفقهاء،
أما مالك فموافق لنا في الخبر أنه ليس دليلا على قبول الماء النجاسة، فبطل تعلقهم أيضا بهذا الخبر.
قال أبومحمد: اما تشنيعهم علينا بالفرق بين البائل المذكور في الحديث وغير البائل الذي لم يذكر فيه وبين الفأر يقع في السمن المذكور. في الحديث وبين وقوعه في الزيت… فتشنيع فاسد عائد عليهم ولو تدبروا كلامهم لعلموا أنهم مخطئون في التسوية بين البائل الذي ورد فيه النص وغير البائل الذي لا نص فيه، وهل فرقنا بين البائل وغير البائل إلا كفرقهم معنا بين الماء الراكد وغير الراكد المذكور في الحديث وغير الراكد الذي لم يذكر فيه؟
مالذي أوجب الفرق بين الماء الراكد وغير الراكد ولم يوجب الفرق بين البائل وغير البائل إلا أن ماذكر في الحديث لايتعدى بحكمه إلى مالم يذكر فيه بغير نص، وكفرقهم بين الغاصب للماء فيحرم عليه شربه واستعماله، وهو حلال لغير الغاصب له. وهل البائل وغير البائل إلا كالزاني وغير الزاني.. لكل ذي اسم منها حكمه وهل الشنعة والخطأ الظاهر إلا أن يرد نص في البائل فيحمل ذلك الحكم على غير البائل وهل هذا إلا كمن حمل حكم السارق على غير السارق.
ولو أنصفوا أنفسهم لانكر المالكيون والشافعيون على أنفسهم تفريقهم بين مس الذكر بباطن الكف فينقض الوضوء وبين مسه بظاهر الكف فلاينقض الوضوء ولأنكر المالكيون على أنفسهم تفريقهم بين حكم الشريفة وحكم الدنية في النكاح.
1/158.
فظهر من كلام ابن حزم الأمور الاتية:
أن الماء الراكد إذا تغير وصفه وتنجس فلايصح التطهر والوضوء به ولا شربه.
أن النزاع في الخطاب النبوي متوجه بالاصالة إلى ماذكر في الحديث وهو النهي عن البول في الماء الذي لا يجري ثم يغتسل منه ويتوضؤ على وجه المباشرة، وأن النهي غير متوجه إلى غير البائل.
فالنزاع بين ابن حزم والفقهاء في خصوص الخطاب لا في تغير الماء بالنجاسة، وكأنه يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم نهى البائل وهو الذي توجه الخطاب إليه وحرم به الفعل و لم ينه غير البائل لأنه غير واقع أصلا منه البول، فمن أين اتيتم بأن صاحب الشريعة نهى غير البائل.
و هناك نصوص كثيرة تبين منزع ابن حزم ونزاعه في المسألة مع الفقهاء ، ويمكن القول: إن خلافه مع الجمهور خلاف لفظي أصولي والتشنيع عليه بأنه يجيز التوضؤ من ماء متنجس راكد لم يبل فيه مباشرة كأن يأتي بكأس بول من خارج فيصبه عليه بحيث يجوز التوضؤ به ولو غير طعمه ووصفه فتشنيع ظاهر عليه رحمه الله.
وقال أيضا1/159ونحن لاننكر القول بما جاء به القرءان والسنة وإن لم نعرف قائلا مسمى به وهم ينكرون ذلك و يفعلونه فاللوائم لهم لازمة لا لنا، وإنما ننكر غاية الإنكار القول في دين الله تعالى وعلى الله مالم يقله تعالى قط ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم شرع يبين هذه المسألة ببيان أحكام الاستحالة وأن الماء هو الماء مالم يتغير فإذا تغير وأصبح بولا فله حكم البول1/162…
فظهر من نقل نصوصه أن نزاعه في من توجه إليه الخطاب بالنهي لا إلى جواز التوضؤ بماء متنجس أتي بنجاسته من خارج.
فالنهي في الحديث عنده متوجه إلى البائل وليس لغير البائل، وهو حرام لايجوز لمقتضى النهي في الحديث عنده .
فابن حزم يقول لهم إننا في غير حاجة إلى القياس وإعمال مفهوم المخالفة لنأخذ منه حكم عدم جواز التوضؤ في الماء المنجس فغير البائل غير منصوص عليه فهو غير مشمول بالنهي والحرمة، ونستفيد عدم جواز الوضوء بالماء المتنجس بالبول من جهة تنجسه، لا من مفهوم المخالفة أو غير ذلك من اللوازم والأقيسة التي بأباها نفاة القياس ويثبتها الجمهور .
والحكم عنده للماء نفسه إن تنجس فهو نجس وإن بقي على طهارته فهو طاهر.
الخلاف هاهنا لفظي وقد نقل احمد شاكرفي تعليقه على كلام ابن حزم ناقلا ما جاء في النسخة اليمنية للمحلى(يقال عاد الخلاف لفظيا يتعلق بالتسمية لا بالحكم فإنه متفق عليه)) وهذا صحيح.
ولست هنا أرجح منزع ابن حزم بقدر ما ابين أصل النزاع في المسألة بينه وبين الفقهاء القائلين بالقياس.
والله أعلى وأعلم
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14362