تحوّلات دورة الاقتصاد بين الماضي والحاضر: من قيمة الإنتاج إلى وهم العوائد
معتز فيصل
كان الاقتصاد في الماضي يرتكز على دورة إنتاجية واضحة، تُضخ فيها رؤوس الأموال داخل عمليات إنتاج حقيقية تُشغِّل العمال وتولّد سلعاً وخدمات تُباع للمجتمع، فيتحقق الربح من خلال القيمة المضافة الناتجة عن العمل البشري. كان رأس المال – كما وصفه كارل ماركس – مكوّناً داخل العملية الإنتاجية ذاتها، لا خارجها، فالقيمة لم تكن تُخلَق إلا بالاحتكاك المباشر بين العمل والمواد الخام.
لكن مع صعود المؤسسات المالية الحديثة – من شركات إدارة الثروات، وصناديق الأسهم والسندات، إلى أنظمة المضاربة الواسعة – انتقل جزء ضخم من رؤوس الأموال من الاقتصاد الإنتاجي إلى اقتصاد “الورق”، كما سمّاه الاقتصادي ها-جون تشانغ. نتج عن ذلك فراغ هائل في الاقتصاد الحقيقي، لأن رأس المال لم يعُد يدور داخل عجلة الإنتاج التي تُشغِّل المجتمع، بل أصبح يدور داخل دوائر مغلقة لا تُنتج قيمة اجتماعية بل قيمة مالية مجردة.
ومع التقدم التكنولوجي وتدفّق المعلومات عن أساليب الاستثمار، تَشكَّل وعي جديد لدى الأفراد: وعيٌ يُفضّل الاستثمار السريع في الأدوات المالية ذات العائد المرتبط بالنسب المئوية، والمخاطر المحسوبة، بدلاً من إدخال المال في مشروع إنتاجي يحتاج زمناً وصبراً ومخاطرة. أصبح صاحب رأس المال – مهما كان صغيراً – يبحث عن الأرباح المباشرة المضمونة، لا عن مشروع صناعي أو تجاري يضيف قيمة حقيقية للمجتمع.
هذا التحوّل في وعي الأفراد ليس أمراً عارضاً، فقد حذر منه الاقتصادي الأميركي جون كينيث غالبرى حين قال إن التدفق المالي المجرد يخلق وهماً بالثروة، لكنه لا يخلق اقتصاداً. والمشكلة اليوم أنّ رؤوس الأموال الصغيرة والكبيرة تسير في الاتجاه نفسه:
الابتعاد عن الإنتاج الحقيقي، والاندفاع نحو اقتصاد التوقعات والمضاربات.
أما الشركات الكبرى وأصحاب الثروات الضخمة، فقد أدركوا مبكراً أن الإنتاج يحتاج نفقات: رواتب، نقابات، قوانين عمل. ومع تصاعد الضغط من حقوق العمال في الدول الغربية، لجأت هذه الشركات إلى نقل مصانعها إلى الخارج بحثاً عن اليد العاملة الرخيصة. وقد أشار توماس بيكيتي إلى أن هذه الحركة كانت أحد أهم أسباب تفريغ الاقتصادات الغربية من الوظائف المستقرة منذ مطلع الألفينات.
ومع ظهور الأتمتة ثم الذكاء الصناعي، وجدت الشركات نفسها أمام فرصة ذهبية:
آلةٌ لا تطالب بحقوق، ولا تُضرب عن العمل، ولا تمرض. فتم استبدال العامل البشري تدريجياً، بحثاً عن أرباح أعلى وتكاليف أقل، مع إعادة ضخ هذه الأرباح مرة أخرى في استثمارات مالية بحتة لا تمر بأي دورة إنتاجية.
لكن المشكلة التي أشار لها الاقتصادي جوزيف ستيغلتز هي أن هذا المسار يقود إلى اقتصاد بلا مستهلكين:
إذا استبدلت الآلةُ الإنسانَ، فمن سيشتري ما تنتجه الآلة؟
وعندما تُعزل الثروة في مؤسسات مالية مغلقة لا تتسرب فائدتها إلى المجتمع، تتوقف عجلة الاقتصاد عن الدوران، ويظهر الخلل:
انكماش في الوظائف، ضعف في القدرة الشرائية، وانفصال كامل بين الإنتاج والاستهلاك.
إنّ المجتمع اليوم يقترب من هذه اللحظة الحرجة:
آلةٌ تنتج كل شيء، وإنسانٌ مُقصى خارج دورة العمل، وبالتالي خارج دورة الاستهلاك التي بُنيت عليها الرأسمالية منذ بداياتها. وعندما يهرب الجميع – أفراداً ومؤسسات – إلى الاستثمار المالي بعيداً عن الإنتاج، يصبح الاقتصاد ذاته في حالة جزرٍ بلا ماء: ثروات متكدسة، ولكن بلا حركة، وبلا أثر اجتماعي.
التعليقات