سعيد بيهي.. تحولات فكر التطرف، والهندسة الجديدة

دينبريس
2021-02-20T16:59:24+01:00
آراء ومواقف
دينبريس20 فبراير 2021آخر تحديث : السبت 20 فبراير 2021 - 4:59 مساءً
سعيد بيهي.. تحولات فكر التطرف، والهندسة الجديدة

الدكتور سعيد بيهي
أقدم بين يدي الحضور العالِم ورقة تقترح مقاربة تُعين على رصد تحولات التطرف، رصدا يُراعي ضرورةَ التعرف على الطريقة الجديدة التي تتم من خلالها هندسةُ الفكر المُؤَصِّلِ للمشروع الجهادي لجماعات الغلو والتطرف.

إنها هندسة تأخذ فيها كُلُّ جزئيةٍ مُكَوِّنَةٍ لفكر التطرف موقِعَها المركزي أو العَلائِقِي بما يختلف عن الهندسة التي بنتها الشريعة، وهو رصد يتوقف على تتبع صيرورة فكر الجماعات الجهادية من خلال التغييرات الداخلة على بِنْيَتِه، وذلك مِن جهتين اثنتين هما:

1- جهة رصد القضية المركزية؛ أي القضية التي تحملها جماعات التطرف باعتبارها مشروعَها الوُجودي، أقصد قضية: “الخلافة بمرجعيةٍ سلفيةٍ مُتَوَسِّلَةٍ بالجهاد في سياق صيرورة توحيدية وهابية بِلِحاظِ تَطَوُّرِ مفهوم الحاكمية…”، وذلك لصيرورة تلك القضيةِ المركزيةِ قُطْبَ الرَّحَى في فهم كل قضايا الشريعة، بما يَسْتَتْبِعُ علائِقَ جديدةً تتحول معها المواقع والمراتب والآثار؛ مِن مثل صيرورة الجهاد في علاقته بالخلافة وسيلةً وحيدة لتحقيقها؛ بحيث تَهُون الحياة في سبيل إقامة سُوقِه، بل يتحول من قضية دفع عدوان مشروع بشرط قيام دولة – محتكرة للقوة متحملة لتبعاتها – به؛ إلى قضية عدوانِ جهاتٍ مُنْبَهِمَة متحللة من تبعات المسؤولية؛ بحيث نصير أمام هندسة جديدة في التعاطي مع قضايا التوحيد والحكم والجهاد مغايرة لهندسة الشريعة، هندسة تتركب فيها تلك العناصر تركيبا جديدا يُحَوِّلُ قضية التوحيد إلى وسيلةٍ لتكفير عموم المسلمين في صلتهم بما تراه جماعات التطرف شِرْكَ القُصور في مقابلة شرك القبور، وقَضِيَّتَيِ التوحيد والحكم وسيلتين لتكفير الحكام، وقضيةَ الجهاد وسيلة لاستحلال دماء الجميع؛

2- جهة رصد عوائق تحقيق القضية المركزية؛ أي ما تتصوره جماعات التطرف مانعا من تحقيقها، تصورا يدفعها للسعي في التَّكَيُّف بتحوير التعامل معها من خلال ربطها بعناصر جديدة، أو الحسم في قضايا قديمة كان تساهلها مع الاختلاف المشتت لصفها الجهادي بسببها مقبولا؛ مما يجعلنا أمام (انتقائية) يتم من خلالها اختيار أشد الأقوال شذوذا بقطعها عن سياقاتها وارتباطاتها؛ (مثلا: ممارسة “داعش” للجهاد محتاجة إلى رفع تَأَثُّمِ وحَرَجِ الأَتْباع بقتل المعذور بالجهل، مما دفع “داعش” في فرعها الحازمي* إلى اختيار قول بعض أئمة الدعوة النجدية بعدم العذر بالجهل في مخالفة لمرجعية ابنِ تيميةَ المعظم عندهم، والذي حكى الإجماع على العذر به تفريعا عن الفرق في الحكم بالكفر بين النوع والمعين).

إننا أمام تحولات في زوايا نظر جديدة إلى قضايا قديمة، أو أمام قضايا جديدة فرضتها ضرورة توطين الفكرة أو تحقيق المقصد؛ بحيث يتشكل من مجموعها خطاب جديد مقارنة مع ما قبله، جِدَّةً لا تقطع مع القديم لضرورته في استمداد المشروعية مِن جمهورٍ يحتكم للمرجعية الدينية، لكنها تَفْصِلُه عن بنيته الشرعية التي كان يأخذ فيها موقعا يَلْحَظُ سياقاتٍ محددةً وشروطا منضبطة؛ بحيث نصير أمام شيء وإن بدا معهوداً وُجودُهُ في الخطاب الشرعي إلا أنه بالنظر إلى طريقة مقاربته ضمن بنية جديدة: سياقا وموقعا وعلائق، ومقتضياتٍ وشروطاً، وثمراتٍ وآثاراً؛ أمر لا صلة له بالشريعة بأي وجه من الوجوه.

تحولات تحتاج إذا إلى معرفة المرجعيات المؤسسة لفكرها والبانية لاختياراتها، بدءاً بما تتصوره توحيدًا تحكم على مخالفيه بالشرك، حتى إنها لترى أن خلافة التوحيد لم تتحقق في الأمة منذ ثلاثة قرون؛ فهي – عندهم – لم تسقط مع الدولة العثمانية لعدم تحققها بالتوحيد أصلا، ثم مرورا بما تراه إيمانا وموقع العمل منه، وما يخرج منه، ونظرتِها للحكام ومن يلوذ بهم من شُرَطٍ وعساكر، بل ومَن تَتَحَقَّق بهم لهم دولة من عموم المسلمين، وكذا مشروعِها الجهادي الذي تتصوره لتحقيق أدنى صور التدبير، في صورة من (إدارة التوحش)* باعتبارها أدنى مراتب الانتظام الذي تتحقق به الحدود الدنيا من الاحتياجات الإنسانية؛ خاصة في بؤر التوتر التي ترتخي فيها قبضة الدولة، مستغلة معاني الهجرة بإحيائها في غير سياقها الأصلي، وإنما في سياقِ أصولٍ اعتقاديةٍ باعتبارها خادمة للتعبئة **؛ مما يفسر تقاطُرَ الأفرادِ بل الأسر على المواقع الجهادية تكثيرا لسواد أهلها.

إننا أمام مستوى خرجنا فيه من دائرة المحكمات ومن ثم اليقين المطلوب في التعامل مع مثل قضايا الجهاد، إلى دائرة المتشابهات ومن ثم الشك، متشابهات بسبب تَرَدُّدِ بعض مفردات خطاب الجماعات الجهادية من حيث القضايا والمصادر والأعلام بين الموافقة الموهومة لخطاب علماء الشريعة وبين المخالفة الحقيقية لهم.

إنه اشتباهٌ يُؤَسِّسُ عليه خطابُ التطرف سُهولةَ استقطاب الأتباع لوهم استمداده من مرجعية عُلَمائِيَّةٍ، من خلال قُوَّة تَسْويقٍ تُؤَدِّي إلى تَعاطُفِ مَن لا علم له بحقيقة اختياراتهم، وانْجِرارِ من لم يَسْبُرْ أَغْوارَ مناهجهم، بحيث يُؤَثِّرون في الرَّعاع، ويَسْتَكْثِرون بهم مِن الأَتْباع، خاصة مع استثارة المكون العاطفي أي الانفعالي الذي يعود إلى نوع المشاعر التي تربط الأشخاص بمرجعية الاختيار السَّلَفِي المُغَطِّي للمشروع؛ أقصد مشاعر التعلق والحب التي على أساسها يتم التموقع ضمن موقع (الولاء) لاختيارات الجهاد الغالي، ومشاعر النفور والرفض التي على أساسها يتم التموقع ضمن موقع (البراء) من الاختيارات المخالفة، وذلك من خلال مسالك ثلاث هي:

‌أ- ربط مشروع الجهاد بأوصاف الحسن والكمال؛ من مثل ربطه بمفردات: الطائفة المنصورة، وأهل الحق، وأهل السنة والجماعة، وأتباع السلف، والعزة والفحولة، وربط إزالة اختلالات الفساد أو الظلم أو الفقر… بقضية استعادة الخلافة من خلال وسيلة الجهاد؛
‌ب- ربط مخالفة مشروع الجهاد بأوصاف القبح والنقص؛ من مثل مخالفة السلف، والرضى بالقعود والتثاقل إلى الأرض، والإرجاء، واستمراء الذل، وقبول الظلم والهوان…
‌ج- التشنيع على المرجعيات المعتبرة؛ وذلك من خلال حَمْلَةٍ شَعْواءَ مُمَنْهَجَةٍ على المرجعية المعتبرة من أهل العلم؛ لتَفْرُغَ الساحة لهم فيتمكنون من الانفراد بتوجيه الناس وقيادتهم.

إنه تشنيع يقوم على إلصاق أوصاف الذم بالمرجعية المعتبرة من العلماء، ورميهم بألوان من القبح، التي منها أنهم منحرفون عن مناهج السلف بالابتداع، أو أنهم علماء السلاطين، أو علماء الحيض والنفاس، أو لا صلة لهم بفقه الواقع لأنهم حبيسوا الكتب الصفراء… إلى غير ذلك مِن صُوَر القَدْح التي لولاها لما استمالوا العامة إليهم.

إنه أمر في غاية الخطورة لتلبيسه على العموم بسبب استغلال جوانب من الحق مخلوطة مع كثير من الباطل ملحوظٍ فيه الاستثارة النفسية؛ مما يفرض ضرورةَ اليقظةِ أمام مكونات الخطاب الجهادي الفكرية والنفسية، وفكِّ الارتباط بينها، خاصة أن أصحابه يتسللون لِواذًا من حيث لا نشعر إلى مناهج تأسيس المعرفة الشرعية في الفضاء البديل عن التلقي المنضبط عن العلماء في معاهد التكوين العلمي المتخصصة؛ فيدسون مُفردات جديدة بدعوى أنها مقولات موجودة في الاجتهاد الشرعي يتأسس عليها الراغبون في التكوين الشرعي؛ مما يشكل خطورة عظيمة لغياب مدافعة باطلهم بقوة حضور الحق من لدن العلماء المتخصصين الذين يضمنون استمرارية المرجعيةِ العلمائية القائمة على الاعتدال.

غير أن مِن رحمة الله أن تلك الجهود لا يمكن أن تُثْمِر نَتائِجَها الخطيرة إلا بِشَرطِ تَقْصير أهل الحق في القيام بواجبهم في مُدافعة باطل تلك الجماعات؛ فإن سنة الله اقتضت أن المُبْطِل لا يمكن أن ينتصر مادام يُوجَدُ للحق حَمَلَةٌ يَدْمَغون به باطِلَه ﴿بل نَقْذِفُ بالحَقِّ على الباطِلِ فَيَدْمَغُه فإذا هُوَ زَاهِق..﴾ [الأنبياء: 18].

إن سنة التدافع تقتضي الحضور المكثف لعدول العلماء نُفاةِ تحريفِ الغُلُوِّ في مواقع التواصل الاجتماعي، ومواقع التكوين العلمي؛ بحيث يُكافئ حضورُهم – إن لم يزد – حضورَ المتربصين الغفلة بمريدي المعرفة الدينية من أبنائنا؛ حتى لا يتحولوا إلى مجندين احتياطيين لحملة مشروع التخريب باسم الجهاد، وإلى وقودِ محرقة تأتي على الأخضر واليابس، قال تعالى: ﴿ولولا دِفاعُ اللهِ الناسَ بَعْضَهُم ببعضٍ لهُدِمَت صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومساجِدُ يُذْكَرُ فيها اسمُ اللهِ كثيرا﴾ [الحج: 40].

حضور فاعل من خلال بيان ما اشتملت عليه تلك التيارات من صُور القبح ومظاهر العيب والنقص المخالفة للشرع والعقل والفطرة…، في مقابلة ما اشتملت عليه مناهج الأمة الممثلة لمرجعيتها المعتبرة عبر تاريخها المستمر من تنزيل محقق للطمأنينية في اعتدال؛ معاملة لها بنقيض مقصودها حتى ينفر الناس منها بدل الإقبال عليها.

دفع هجمتها على العلماء باعتبار أن الطعن فيهم طعن فيما يحملون من العلم المُسَيَّجِ بضوابط التقعيد التي يضمنون بواسطتها سلامة هندسة مكونات الشريعة؛ أحكاماً ومراتبَ ومواقعَ وعلائِقَ وسياقاتٍ ومقتضياتٍ…، وذلك حتى يُقْبِل الناسُ عليهم بسبب زوال الموانع الناشئة عن اعتقاد النقص فيهم؛ مما يضمن السلامة في استمرارية الاستمداد من المرجعية المعتبرة لتبصرها واعتدالها.
هذا وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أحمد بن عمر الحازمي من مواليد مكة المكرمة منظّر اتجاه متطّرف داخل “داعش” حمل اسمه فصار يعرف بـ “الحازمية”، روّج لتكفير الحكام، وعدم العذر بالجهل، وتكفير العامة. أغلب مؤلفاته شروح لكتب المدرسة الوهابية التي تُعَدُّ محور خطاباته، سئل هل يُحكم على من بدَّل حكم الله بالقوانين الوضعية بالكفر عينًا؟ فأجاب: “نعم كفره عينًا، ما في بأس، الله كفره ما نحن”.
** يُنظر “إدارة التوحش أخطر مرحلة ستمر بها الأمة” لأبي بكر ناجي.
* يُنظر تناول محمد بن عبد الوهاب للهجرة النبوية ضمن مباحث “الأصول الثلاثة” ص: 21-22، منطلقا لتأسيس الهِجَر التي احتضنت “إخوان من طاع الله” باعتبارهم رأس حربة الجيش العقدي للحركة الوهابية.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.