سعيد الزياني ـ دين بريس
في عالم لم تعد فيه القوة العسكرية وحدها تحدد موازين الصراع، بل أصبح النفوذ الاقتصادي، والتحكم في سلاسل الإمداد، والتكنولوجيا الجيوسياسية، وأدوات الحرب النفسية عوامل رئيسية في توجيه مسارات الدول، تظهر معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين إيران وروسيا كتحرك استراتيجي محسوب بدقة، تتداخل فيه الأبعاد العسكرية، الاقتصادية، والسياسية، في سياق إعادة تشكيل النظام العالمي وفق نموذج متعدد الأقطاب.
هذه المعاهدة، التي تم توقيعها قبل أيام من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لم تأت كنتيجة لتقارب ظرفي بين موسكو وطهران، بل هي تعبير عن تحول هيكلي في موازين القوى الدولية، حيث أصبحت إيران وروسيا تواجهان التحدي الأمريكي ذاته، وإن كان كل منهما ينطلق من منطلقات مختلفة.
هنا، يجب تفكيك المعاهدة ليس فقط من زاوية النصوص الدبلوماسية التي تتحدث عن حسن الجوار والتعاون المشترك، ولكن من خلال عدسة تحليلية أكثر بعدا، تركز على المصالح العميقة لكل طرف، وعلى كيفية إدارة العلاقة بينهما وسط بحر من المصالح المتعارضة.
ويمكن فهم هذه المعاهدة من خلال ثلاثة محاور رئيسية: أولا، البعد العسكري والأمني، حيث تتشابك المصالح الروسية والإيرانية بشكل واضح في إطار الحرب في أوكرانيا والتهديدات التي تواجهها طهران من الولايات المتحدة وإسرائيل.
ثانيا، البعد الاقتصادي، حيث تسعى روسيا إلى تعويض الخسائر الناجمة عن العقوبات الغربية من خلال تعميق التعاون مع إيران، بينما تبحث طهران عن قنوات مالية وتجارية تضمن لها مقاومة الضغوط الأمريكية.
ثالثا، البعد الجيوسياسي، حيث تمثل هذه المعاهدة جزء من جهود موسكو وطهران في إعادة تشكيل النظام العالمي، بعيدا عن القطبية الأمريكية المطلقة.
بخصوص البعد العسكري والأمني في المعاهدة يعكس بشكل واضح التحولات التي فرضتها الحرب في أوكرانيا، فإيران لم تعد مجرد داعم سياسي لروسيا، بل أصبحت شريكا عسكريا من الدرجة الأولى، عبر تزويد موسكو بطائرات بدون طيار مثل “شاهد”، التي تحولت إلى عنصر حاسم في استراتيجية الاستنزاف الروسية ضد أوكرانيا.
وتذهب المعاهدة أبعد من ذلك، حيث تنص صراحة على التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات الأمنية، مما يشير إلى أن العلاقة بين البلدين تجاوزت مرحلة الشراكة التكتيكية إلى مستوى التنسيق الاستراتيجي.
لكن، وهنا يكمن الفارق الجوهري بين إيران وروسيا، فإن المعاهدة لا تشمل التزاما بالدفاع المتبادل، على عكس الاتفاق الذي وقعته موسكو مع كوريا الشمالية.
وتبرز هذه النقطة تحديدا مستوى عدم الثقة بين الطرفين، حيث تدرك طهران أن روسيا لن تتدخل لصالحها إذا ما اندلعت مواجهة مباشرة بينها وبين إسرائيل أو الولايات المتحدة، كما أن موسكو تدرك أن إيران، رغم خطابها العدائي للغرب، ليست في وارد تقديم قوات عسكرية لمساندة روسيا على الأرض.
إن هذا التقاطع والتباين في المصالح ينعكس أيضا في البعد الاقتصادي للاتفاق، حيث تبدو روسيا المستفيد الأكبر على المدى القريب، إذ تمكنت عبر هذه الشراكة من توطين إنتاج المسيرات الإيرانية على أراضيها، مما قلل بشكل كبير من اعتمادها على الإمدادات المباشرة من طهران.
وفي المقابل، تجد إيران نفسها في وضع أكثر هشاشة، حيث تحتاج بشكل ملح إلى قنوات مالية جديدة لمقاومة العقوبات، ولكنها تواجه شريكا أقوى لا يمنحها سوى ما يخدم مصالحه.
ويركز الشق الاقتصادي في المعاهدة على التعاون في مجالات الطاقة، النقل، والتجارة، لكن التفاصيل تكشف أن روسيا، التي تعاني من ضغط العقوبات الغربية، تبحث عن بدائل للأسواق الأوروبية أكثر مما تبحث عن شراكة اقتصادية متوازنة مع إيران.
ومن جهة أخرى، تدرك طهران، التي تراقب بقلق متزايد احتمالية تصعيد العقوبات الأمريكية مع عودة ترامب، أن شراكتها مع موسكو لن تكون كافية لموازنة الضغوط الدولية المتزايدة عليها، مما يفسر توجهها المتوازي نحو الصين والهند كأطراف أخرى يمكن أن توازن الضغط الروسي.
أما البعد الجيوسياسي للمعاهدة، فهو الأكثر حساسية (من وجهة نظرنا)، حيث يتم تقديم الاتفاق على أنه جزء من تحول عالمي نحو تعددية الأقطاب، لكن الواقع أن موسكو وطهران تختلفان في رؤيتهما لمستقبل هذا النظام الجديد، فروسيا تسعى إلى تعزيز مكانتها كقوة كبرى تنافس الولايات المتحدة، بينما إيران تبحث عن ضمانات أمنية تتيح لها الاستمرار في مواجهة خصومها الإقليميين.
وتجعل هذه الديناميات المعقدة من الاتفاقية أداة مرنة في يد كل طرف، حيث سيتم تفعيل بنود معينة منها حسب الحاجة، بينما ستظل بنود أخرى مجرد ديكور دبلوماسي.
نعتقد أن هناك رسائل موجهة عبر توقيت توقيع المعاهدة ليست أقل أهمية من مضمونها، فإيران تسعى إلى إرسال إشارة واضحة إلى إدارة ترامب بأنها تملك خيارات أخرى غير التفاوض المباشر مع واشنطن، بينما تستخدم موسكو الاتفاقية لإظهار أن العقوبات الغربية لم تعزلها دوليا، لكن في العمق، هناك طبقة أخرى من الرسائل، موجهة إلى الحلفاء والشركاء المحتملين، سواء في الصين، أو في الهند، أو حتى في بعض الدول الأوروبية التي لم تتخل تماما عن فكرة التعامل مع موسكو وطهران.
لكن هل هذه المعاهدة كافية لإحداث تحول استراتيجي دائم في العلاقة بين روسيا وإيران؟
ربما يجيب التاريخ بالنفي، فالعلاقة بين البلدين لطالما شابها قدر كبير من الحذر وعدم الثقة، كما أن مصالحهما، رغم تقاطعها في بعض الملفات، تبقى متعارضة في ملفات أخرى، مثل النفوذ في آسيا الوسطى، أو التعامل مع إسرائيل، أو حتى التنافس على أسواق الطاقة.
وستحقق روسيا، على المدى القريب، مكاسب واضحة من الاتفاق، خصوصا على الصعيد العسكري والاقتصادي، بينما ستجد إيران نفسها في موقف أكثر تعقيدا، حيث ستحاول الاستفادة من الاتفاق دون أن تصبح رهينة للمصالح الروسية.
وعلى المدى البعيد، سيعتمد نجاح المعاهدة على مدى قدرة الطرفين على إدارة خلافاتهما، وهو أمر لا يبدو مضمونا، خصوصا مع دخول متغيرات جديدة مثل الموقف الصيني، والتحولات المحتملة في العلاقة بين إيران والغرب.
وكخلاصة لا يمكن قراءة هذه المعاهدة بمعزل عن السياق الأكبر الذي تتحرك فيه، حيث لم تعد العلاقات الدولية تدار وفق أنماط التحالفات التقليدية، بل وفق مزيج من المصالح المتغيرة، والتحالفات الظرفية، والأدوات غير التقليدية.
نعتقد أن إيران وروسيا ليستا حليفتين بالمفهوم الكلاسيكي، بل شريكتان تحكمهما الضرورة، وسرعان ما قد تعيد هذه الضرورة تشكيل نفسها وفق معادلات جديدة، تجعل من هذه المعاهدة مجرد محطة أخرى في رحلة طويلة من التقارب أو التباعد.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22769