- دين بريس ـ سعيد الزياني
كانت شمس “الربيع” لعام 2012 بالكاد تشرق على سوريا عندما انطلقت مجموعة صغيرة من المقاتلين المجهولين في شمال البلاد، حاملين رايات سوداء وشعارات جهادية، معلنين عن تأسيس “جبهة النصرة”.
كان الهدف واضحاً: إسقاط النظام السوري بأي وسيلة ممكنة، لكن القصة لم تتوقف عند هذا الطموح الأولي، فقد تطورت هذه المجموعة من مجرد فصيل تابع لتنظيم الدولة الإسلامية إلى لاعب محوري في الصراع السوري، عابرةً مراحل من التغيرات الأيديولوجية والتحالفات السياسية.
بدأت الجبهة عملياتها بسلسلة من الهجمات الجريئة، تضمنت تفجيرات انتحارية مدمرة في دمشق وحلب، مما لفت الأنظار إليها سريعاً. يتذكر أحد سكان حلب تلك الأيام قائلاً: “لم نكن نفهم من هؤلاء أو ما يريدونه، كل ما كنا نراه هو الدمار”.
ومع ذلك، لم يكن المشهد الداخلي للجبهة مستقراً، إذ انقسم قادتها بين الولاء لتنظيم الدولة الإسلامية بقيادة أبو بكر البغدادي، وبين التوجه نحو استقلالية أكبر تحت مظلة تنظيم القاعدة.
الصراع الداخلي والانفصال عن تنظيم الدولة
في عام 2013، شهدت النصرة مواجهة حادة مع زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي، الذي أراد دمج النصرة تحت قيادته المباشرة. إلا أن قائد النصرة، أبو محمد الجولاني، أعلن ولاءه لتنظيم القاعدة، مما أدى إلى انقسام كبير. يقول أحد المقاتلين السابقين: “الانفصال لم يكن خياراً سهلاً، لكنه كان ضرورياً للحفاظ على هوية الجبهة”.
هذا القرار نقل النصرة إلى موقع خاص كفرع رسمي للقاعدة في سوريا. وبدأت الجبهة بتوسيع نفوذها، مستخدمة مزيجاً من السيطرة العسكرية وترويج الأيديولوجيا. ومع ذلك، أصبحت هدفاً رئيسياً للقصف الجوي الدولي، ما أدى إلى توتر علاقتها بالفصائل المحلية التي اتهمتها بالعمل ضد مصالح الثورة.
من “النصرة” إلى هيئة تحرير الشام
في عام 2016، أدركت النصرة أن تبعيتها لتنظيم القاعدة أصبحت عبئاً يحد من قدرتها على المناورة، فكانت الخطوة التالية هي إعلان فك الارتباط بالقاعدة وتغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، محاولةً تقديم نفسها كقوة محلية مستقلة.
لكن هذه الخطوة لم تحقق الهدف المنشود، ما دفعها في عام 2017 إلى تشكيل “هيئة تحرير الشام”، بعد دمج عدة فصائل مثل “حركة نور الدين الزنكي” و”جيش السنة”.
هنا بدأ التحول الاستراتيجي في نهج الهيئة. يقول أحد سكان إدلب: “لم يعد الأمر يتعلق بالجهاد العالمي، بل أصبح التركيز على إدارة المنطقة. فجأة، وجدنا أنفسنا أمام هيئة تتحدث عن توفير الخدمات وحكومة محلية”.
وأطلقت الهيئة “حكومة الإنقاذ السورية”، التي أصبحت أداة لإدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها، خصوصاً في إدلب.
التمويل والسيطرة الاقتصادية
لم تكن إدارة المناطق سهلة. لجأت الهيئة إلى استراتيجيات اقتصادية مثيرة للجدل لتمويل عملياتها. يقول تاجر محلي: “يسيطرون على كل شيء: تجارة المحروقات، المعابر، وحتى بعض الأسواق”.
واحتكرت الهيئة تجارة المحروقات عبر شركة “وتد”، وفرضت رسوماً على المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية، مما وفر لها مصادر تمويل ضخمة، لكنه أثار غضب السكان والفصائل الأخرى، كما اتُهمت بممارسات مثل الخطف وطلب الفدية، مما ساهم في تشويه صورتها.
العلاقة مع تركيا والموقف الدولي
رغم تصنيفها كمنظمة إرهابية من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة، وجدت هيئة تحرير الشام دعماً غير مباشر من تركيا. يوضح أحد المحللين: “تركيا تحتاج الهيئة لضبط الفصائل في إدلب ضمن ترتيبات أوسع مع قوى دولية أخرى مهيمنة”.
وقد مكّنها ذلك من السيطرة على معابر حدودية رئيسية، مثل معبر “باب الهوى”، الذي يمثل شرياناً حيوياً للتجارة والمساعدات. لكن هذه العلاقة مع أنقرة محفوفة بالمخاطر، حيث تواجه الهيئة مراقبة دولية متزايدة وضغوطاً للتفكيك أو التغيير.
التحديات والمعوقات
رغم قوتها العسكرية والاقتصادية، تواجه الهيئة تحديات كبيرة. موقعها الجغرافي في إدلب يجعلها محاصرة بين الجيش التركي من جهة وقوات النظام السوري من جهة أخرى، ما يحد من قدرتها على المناورة، كما يشكل تنظيم “حراس الدين”، الذي يضم قيادات سابقة من القاعدة، تهديداً داخلياً لاستقرار الهيئة.
أضف إلى ذلك الضربات الجوية المستمرة من الجيش النظامي وروسيا، التي تضعف من قوتها تدريجياً.
مستقبل غامض
اليوم، تجد هيئة تحرير الشام نفسها في مفترق طرق. هل ستتمكن من الحفاظ على نفوذها وسط الضغوط الدولية والمحلية؟ يقول أحد المحللين: “الهيئة أصبحت أكثر براغماتية، لكنها لم تصل بعد إلى القبول الدولي. مستقبلها يعتمد على قدرتها على التكيف مع التغيرات السياسية”.
مع استمرار التفاهمات الدولية، خصوصاً مع تركيا، يبدو أن الهيئة ستبقى لاعباً مهماً في شمال سوريا، لكن إلى متى؟ في ظل التحديات المتزايدة، يبقى السؤال الأكبر هو ما إذا كانت الهيئة ستتمكن من الاستمرار كقوة مركزية، أم أنها ستواجه نفس مصير الجماعات المسلحة التي سبقتها.
تظل “النصرة” أو “هيئة تحرير الشام” عصب المعارضة المسلحة للنظام السوري، وتبقى في نهاية كل تحليل آلة مهمة في يد قوى دولية تحركها كيف تشاء في رقعة جغرافية مفتوحة على كل التوقعات. أكيد ستنتهي الآلة بعد الاستعمال..
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21684