26 أبريل 2025 / 16:13

تحقيق المناط بين غفلة الفروع وبصيرة الكليات: مصالحة الفقه مع الدولة والمجتمع

الدكتور محمد بشاري
أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

افتتح “المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة” يومه السادس والعشرين من أبريل في معرض أبوظبي الدولي للكتاب ندوة علمية نوعية حملت عنوان “تحقيق المناط في فكر العلامة الشيخ عبد الله بن بيه: الإبداع الفقهي بين التأصيل والتنزيل”، بإدارة مميزة لسعادة الدكتور خليفة مبارك الظاهري .
جاءت هذه الندوة لتعيد طرح السؤال المركزي الذي ألحّ عليه الشيخ بن بيه في مسيرته الفكرية والفقهية: كيف نصالح الخطاب الفقهي مع الدولة الوطنية والمجتمع؟ وكيف ننتقل من فقه ينطق في العزلة عن الواقع إلى فقه يستبصر حركة الإنسان، ويصنع سلماً اجتماعياً متجذراً في مقاصد الشرع وضرورات العمران البشري؟

لقد شخص الشيخ بن بيه بدقة أن إشكالية الفقه المعاصر لا تقف عند حدود جهل الأحكام، فهذا عَرَضٌ لا جوهر، وإنما تنشأ الإشكالية الأعمق من صورة مركبة من الجهل المزدوج: جهل بالأحكام وجهل بالواقع. إن افتقاد الفقيه لملكة إدراك الواقع في تعقيداته وبنياته، ولبعد النظر في تحولاته ومساراته، يجعله أسير مقولات جامدة، معزولة عن دينامية المجتمع والدولة. وليس أخطر من هذا إلا غياب وعي الشراكة العضوية بين الأحكام والواقع، إذ تتحول الفتوى إلى خطاب مفارق، وتفقد التشريعات صلتها بالحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

في كتابه المرجعي “تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع”، يؤسس الشيخ بن بيه لنقلة منهجية تتجاوز هذا الانفصال القاتل بين النص والواقع. فالإشكال عنده ليس فقط في عدم تنزيل الأحكام على الوقائع، بل في عطب في رؤية الفقيه نفسه للواقع: ما هو الواقع؟ كيف نراه؟ هل نراه بنظارة الثقافة التقليدية المتحجرة؟ أم نعيد بناء أدواتنا المعرفية لنعاين الواقع بعيون تبصر التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة؟ إن الواقع في تصور الشيخ ليس مجرد ساحة تطبيق للأحكام، بل هو شريك أصيل في إنتاج الحكم نفسه. الحكم هنا ليس صدى لحفظ النصوص، بل هو فعل مؤسِّس للسلام الأهلي، منسجم مع غايات الشرع في عمارة الأرض وإحقاق كرامة الإنسان.

الإشكال الأكبر الذي نبه إليه الشيخ يكمن في وهم المعالجة الجزئية للقضايا المعاصرة. إن الاجتهاد الجزئي، الذي يقتطع من الواقع جزءاً ليطبق عليه حكماً منعزلاً عن باقي أجزائه، لا يملك القدرة على إنتاج مفاهيم قادرة على صناعة السلم والتعايش. الاجتهاد المتقطع، الذي يطارد الجزئيات دون أن يبني رؤية كلية، يظل رهين النظرة التجزيئية، عاجزاً عن استيعاب التشابكات البنيوية بين القيم الدينية والواقع السياسي والاجتماعي. لذلك لا بد من مدخل كلي يعيد ترتيب العلاقة بين الفقه والواقع على أساس الوعي بمقاصد الشريعة الكبرى، لا على مستوى الأفراد فحسب، بل على مستوى الجماعات والدول والمجتمعات.

المدخل الكلي عند الشيخ بن بيه ليس شعاراً نظرياً، بل هو شرط منهجي لإعادة هندسة أدوات التفكير الأصولي ذاته. فليست المشكلة في ضعف فقه التنزيل فحسب، بل في قصور المنهج الذي يصوغ الأسئلة الفقهية ابتداءً. وقد صاغ الشيخ هذا الوعي المنهجي في مشروعه التجديدي الذي يجعل من “تحقيق المناط” أداةً لتحرير الفقه من سجن الأحكام الجاهزة، نحو اجتهاد يحقق شروط الفعالية الاجتماعية والقدرة على التوجيه المدني والسياسي، دون تفريط في الثوابت أو انسياق خلف الضغوطات الظرفية.

بهذا الفهم العميق، يطرح الشيخ بن بيه مفهوم “المدخل الكلي” كبديل عن الاجتهاد الجزئي الذي يشتغل على الفروع دون النظر في الكليات. فالمدخل الكلي هو الذي يسمح للفقيه أن يتحرك ضمن أفق المقاصد الشرعية العليا، حاملاً رؤية شاملة تدمج بين فقه النص وفقه الواقع، بين مقتضيات الاستدلال ومقتضيات العمران، بين سلامة الأديان وسلامة الأوطان. ومن هذا المنطلق تتولد القدرة على بناء مفاهيم جامعة كالسلم المجتمعي، والتعايش الديني، والمواطنة الحاضنة للتنوع، وهي مفاهيم لا يمكن أن تصدر عن فقه جزئي معزول عن أسئلة الاجتماع والسياسة والاقتصاد.

المدخل الكلي الذي يدعو إليه الشيخ يقتضي أن يكون الفقيه شريكاً في بناء الاستراتيجيات لا مجرد مفتٍ على الهوامش. وهذا ما يعيد تعريف وظيفة الفقيه: لم يعد مجرد ناقل للأحكام، بل صار صانعاً للوعي وموجهاً لحركة المجتمعات نحو السلم والاستقرار والعدل. ومن هنا يلتقي مشروع الشيخ بن بيه مع متطلبات الدولة الوطنية الحديثة، التي تحتاج إلى خطاب ديني مسنود بالاجتهاد المقاصدي، قادر على مصالحة الأحكام مع الوقائع، وتجاوز فقه التنازع إلى فقه التعايش.

أمام تحديات التطرف، وخطابات العنف، وانقسامات الهويات، يأتي هذا المدخل الكلي ليعيد للفقيه مكانته كفاعل في صناعة الأمن الروحي والاجتماعي والسياسي، وليس كحارس لتراث جامد. إن إعادة الاعتبار لتحقيق المناط بهذه الرؤية الشاملة هو إسهام حقيقي في بناء تعايش إنساني قائم على الإنصاف، واعتراف متبادل، ووعي مشترك بأن الشريعة جاءت لرفع الحرج، وتحقيق مصالح العباد، وصيانة الحقوق، وبناء الأوطان الآمنة الحاضنة لكل مواطنيها بلا تمييز.

هكذا لا يعود تحقيق المناط مجرد تقنية أصولية، بل يصبح مدرسة في التفكير الحضاري، مشروعاً لتأصيل فقه يستنير بالمقاصد، ويواجه تعقيدات الواقع بوعي شامل، يستلهم التاريخ، لكنه لا يستسلم لجموده، يبني على التراث، لكنه لا يقدسه خارج شروط الزمان والمكان. هو اجتهاد ينحاز للإنسان، وللدولة، وللمجتمع، ويجعل من الفقيه شاهداً على الزمان، وراعياً للحكمة، وساعياً للسلام.