محمد خياري
اقترب عيد المولد النبوي الشريف، هو لحظة توقف مباركة؛ توقفٌ لتيار الحياة اليومي، واجتماعُ النفوس على نغمةٍ واحدة، تُعلِنُ بدايةَ انبعاثٍ جديدٍ في الطاقات، وبدايةَ صفحةٍ للنقاء والخير. في هذا الزمان المكرم، زمن رسول الله، تتبدل سيرورةُ العمل الفردي بصخب المشاركة الجماعية، وروحُه تزهر في قلوب الجمع، وتنزاح وحدته، فتنسجم الأذكارُ مع أنغام التسبيح، لتنعش صفحاتَ الروح وتغسل صَدَأةَ القلب. هو زمن الانعتاق من إلزام العمل المنتظم وقيد الوضع البشري المرهق.
يستحضر القلبُ هذه الأيامَ، الحديث عن صفات النبي المختار الجسدية والخلقية، مشاهدَ النور المحمدي الذي تجسَّد في سيد الخلق، المكرَّم في كل شيء، والمكمِّل لصفات الكمال. فبشرته ناصعة البياض كالقمر المتلألئ، ووجهه يشعُّ ضياءً، وعيناه حاملتان لرحمة الله وحكمة السموات. كان جسده رشيقًا يجمع بين القوة واللين، وعبق عطر لا يفارقه، يعبِّر عن نقاء سريرته. أما أخلاقه فكانت تفيض محبةً، حيث الصدق والحياء والرأفة والبذل كجمرة متقدة في قلبه، لا كسائر البشر، بل كأنوار ملكوتية.
في هذه التوليفة المتكاملة لصفاته، تنسجم أنوارُه الخلقية والجسدية في مشهدٍ شعريٍّ رائع، ينثر عبيره على كل متأمِّل، فتخطف الأنفاس، وتطرب الأرواح، ويحفظ في الصدور سرُّ ذلك الكمال الذي يضيء للإنسانية دربَ الأمل والسلام. وليست هذه الأنوارُ المحمدية مجرد حكايةٍ تروى، بل هي روحٌ وحضورٌ حيٌّ يرشد القلوبَ إلى مدارج المحبة، ويضيء دروبَها كل عام في ربوع المغرب وسائر الأقطار. فتتجدد النفوس في طقوس المولد النبوي، وتسمو فوق قيود الزمن لتعيش في أجواء الخلود الإلهي.
في رقعة المغرب، تشرق الأنوارُ المحمدية كل عام، وينهض القلب فرحًا، وتبتسم الروح ابتهاجًا، إذ يحل مولد سيد الأنوار، المبعوث رحمة للعالمين، الذي جاء بالنور يغمر الظلمات، ويهدي الحائرين، وينشر السلام في أرجاء الديار. إنه يوم عظيم يلامس أعماق النفوس، يُعَدُّ عيدًا بين الأعياد، لا ككل الأعياد، بل عيدًا يفيض نورًا، ويعلو صياحُ المدائح والتسابيح، فتنعكس على قلب المؤمن ومشهد الحياة كلها بهجةٌ لا توصف.
في ليلة المولد النبوي، تتجمع أفئدةُ المغاربة في مساجد تتلألأ أنوارها، وتعلن أصداؤها أناشيدَ مدح النبي المختار، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، تحت مظلة أمير المؤمنين، وارث السر النبوي، بهي القلب، هادئ النظر، منساب الروح، يرتوي من بحر المحبة أقوال القاضي عياض في المولد، ويستشعر المدائح الجزولية، تترنم بها الأرواح وتنشرح لها الصدور. يقف الملك والحكومة والأعيان، يشاركهم نسيجُ المجتمع كله. من القصر الملكي حيث تُوقَد الشموع وتعلو الأمداح، إلى الزوايا والجوامع حيث يقيم أهل الذكر المجالس، تكتسي الليلةُ برداء من النقاء، مفعمة بروحانية الجمال وعذوبة التسبيح.
أما أهل الجفاف الروحي، يرون في الاحتفال بدعةً، فاتهم سرَّ العيد الذي هو احتفاء بالنور ونزول البركات؛ إذ ليس الدين جافًا قاسيًا كما يرونه، بل هو حياة وروح ونبض. وكما قال الشيخ الأكبر ابن عربي رضي الله عنه: “الحقيقة المحمدية هي مبدأ خلق العالم وأصله، من حيث أنها النور الذي خلقه الله قبل كل شيء، وخلق منه كل شيء”، فهذا النور ينير القلوب ويبعث فيها الحياة.
أعشق في تلك الليالي وجوهَ المغاربة المرتدية الجلابيبَ التقليدية والعمائم البيضاء، تفوح من حضراتهم حكاياتُ الحكمة والسكينة كالعطور النادرة. أحب تلك الأيادي التي تسبح بانتظام، والنظرات الهادئة تراقب الجميع من الولد إلى البالغ، بعين هادئة تميل إلى الغفوة، والأطفالَ حين يلبسون ثيابهم الجديدة، تحيط بهم فرحةٌ تنمو في قلوبهم، ينتظرون بسذاجة البراءة قطعةً من الحلوى أو درهمًا ينثرونه في يوم فرح لا يشبه غيره من الأعياد.
هذا العيد نسيجُ التماسك الاجتماعي، زخرفُ المحبة والعشرة، يبلور التضامن بين القلوب، ويقرن الصفاء بالإخاء. تنبعث من المساجد سحابةُ المباخر الضخمة التي تعبق الأجواء بعبير المسك والعود، وتتردد أسمى المدائح مثل قصيدة البردة للإمام البوصيري، ورائعة أحمد شوقي “ولد الهدى”، التي تبعث في النفس قدسيتَها ونورَها. في جلسات الحضرة والذكر بالزوايا والمساجد، يُرتدى الزي الخاص، يكتسي الفرح صفةَ الاحتفال، ويتزاحم الطيبون لتحضير الأطعمة في فرح الروح والبدن، وتبادلات التهاني تعبِّر عن ثبات الدين ونوره.
ما أجمل المواكب التي تحمل الشموع! تلك الشعلة الصغيرة التي تتحول إلى بحر من الأنوار المتلألئة تزحف في الشوارع، تضيء الدروب، وتوقظ في النفوس بريق الفرحة والتقديس. فيها تدمع العيون من زهو اللحظة، وتتراقص الأرواح على نغمات الأناشيد والمدائح التي تخلد النور المحمدي في القلوب، فتتعانق ساميات الروح وتسمو بها نحو غير محدود. ولا تغيب الأزياء التقليدية عن هذه التقاليد، فهي تأخذ من شهامة العصور القديمة وتجسِّدها في أرواح الناس؛ الثوب أبعد من قطعة قماش، هو سيرة حياة، ماضٍ حاضر آتٍ، فيه اكتساب الهيبة، وإظهار الجمال الروحي، وهوية الأمة، وإرث الأجداد الذين حكموا بمشاعر الطهارة والصدق.
ولا يغيب الذكر عن هذه التقاليد، فهو النهر السحيق الذي يروي النصوص بالروح ويحيي قلوب الناس، حيث تُعقد جلسات الذكر في الزوايا والجوامع، والأمداح ترتفع ببهجة وسرور، تفيض على نفوس الجميع في مشهد فريد يجسد صلة السماء بالأرض. وكما قال مولانا جلال الدين الرومي رضي الله عنه: “من أسباب زوال الهموم وغفران الذنوب الصلاة على النبي ﷺ”، فإن هذا الذكر ينير القلوب ويطهرها. وكما قال أيضًا:
أنصت إلى الناي يحكي حكايته
ومن ألم الفراق يبث شكايته
أريد صدرًا مُمَزَّقًا مُمَزَّقًا برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق.