15 أغسطس 2025 / 10:36

تأملات في نور السر الصوفي وظلال الشرعية السلطانية

محمد خياري
باحث في العلوم الاجتماعية

مقدمة:
بعد تجلّي روح الشيخ سيدي جمال في ملكوت الغيب، احتدم الجدل في رياض الطريقة القادرية البودشيشية. وتكشّفت في ظلال ذاك النقاش رؤيتان جوهريتان:
الرأي الأول: يرى أن مشكاة القيادة لا تُورَث ولا تُكتَسَب بمرسوم، بل هي هبة سماوية لا تُقاس بالوثائق، وشهادة أسرار تفيض من صاحب المقام.
الرأي الثاني: يؤكد أن حماية شجرة الطريقة من التفرق لا تكون إلا بظل سيف سلطان يحفظ حقوق الملّة ويصون مصالح العباد، ويكون حرزاً للطريقة من شتات الآفاق.
هنا يلقي سؤال بظله: هل يحتمي السرُّ الصوفي بالسيف؟ أم أن السيفَ يُفَلُّ حدّه إذا مسّ أسرارَ الصفاء؟

أولاً: السر الصوفي: نور القلب ومفتاح الملكوت

السر الصوفي هو جوهر التصوف، تلك الشعلة الإلهية التي تتوهج في أعماق القلب حين يتطهر من غبار الدنيا. كما يقول ابن عطاء الله السكندري: “لا سبيل إليه إلا بالنقاء والتصديق والكف عن كل ما سوى الله”. إنه نور يُنقل من قلب شيخ إلى قلب خليفته، كما تنتقل الشعلة من مشكاة إلى أخرى، محافظاً على نقائه عبر الأجيال. يُشبه السر شفرة روحية، كـ الحمض النووي الذي يحمل هوية الطريقة، يضمن استمرارية البركة والإرشاد الباطني. في الطريقة القادرية البودشيشية، يتجلى هذا السر في السند الروحي المتصل بالإمام عبد القادر الجيلاني، وفي الإشارة الداخلية التي يتلقاها الشيخ من ربه، ليختار من يحمل المشعل بعده.
يصف جلال الدين الرومي السر بأنه “نار المحبة الإلهية، تحترق في جوف المُحِبّ فتُغيّر واقعه، فيرى الله في كل حركة وسكون”. أما ابن عربي فيراه لطيفة ربانية أرق من الروح، صلة خاصة بين العبد والخالق، تتجلى فيها أنوار الملكوت. والحلاج، مغموراً بالعشق، يهتف: “أقفلت وجهي مُشرقاً بالسر، فلا أرى إلا وجهك”. هذا السر لا يُدرك بالعقل، بل بالذوق والكشف، ولا يُنقل بالكلمات، بل بالصحبة الروحية والسير على درب النقاء. إنه مفتاح الأبواب العُليا، يفتح عوالم القرب والمحبة، ويظل محجوباً إلا عن القلوب التي رفع الله عنها حجب الغفلة.
لكن هذا النور يواجه تحديات العصر، حيث يغرق الإنسان في صخب التقنية الرقمية – الهواتف الذكية، الشبكات الاجتماعية – وضغوط الحياة العملية والأسرية. هذه الغوايات تُشبه غباراً يحجب شمس الروح، فتعيق التفرّغ للخلوة والتأمل، اللذين هما روح التجربة الصوفية. الخلوة تحتاج قلباً صافياً، كمرآة تعكس نور الحق، لكن زحام الدنيا يطمس هذه المرآة، فيصعب على السالك الوصول إلى مقام الإحسان.
لذلك وفي حكمة بالغة، أرسى الشيخ سيدي جمال – رحمه الله – تقسيماً ثلاثياً للأدوار داخل مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية، كأنما نسج خيوطاً من نور وظلال ليحفظ التوازن بين الباطن والظاهر. فتكفّل هو بالأمور التربوية الروحية، يرشد المريدين ويغذي قلوبهم بنور السر الصوفي. وأوكل إلى سيدي منير العلاقات الخارجية، ليكون جسراً يربط الطريقة بالعالم الخارجي، سواء بالمجتمع أو السلطة. أما سيدي معاذ، فقد كُلّف بالأمور اللوجستية والتنظيمية، ليضمن سلاسة إدارة الزاوية. وفي لحظة فارقة، أوصى سيدي جمال بنقل السر الصوفي إلى ابنه سيدي منير، بوصية مكتوبة ومقروءة أمام الملأ، مؤكداً أن الخلافة الروحية تُمنح بناءً على الإشارة الداخلية والاستعداد الباطني، لا على اعتبارات دنيوية.
هذا التقسيم يُشبه توزيع الأنوار في سماء الروحانية: نور التربية يضيء القلوب، ونور العلاقات يجمع بين الأرواح، ونور التنظيم يحفظ الإطار. والوصية لسيدي منير تؤكد أن السر الصوفي لا يُنقل إلا بإلهام إلهي، كما يقول ابن عربي: “السر يُمنح لمن اختاره الله، لا لمن اختارته الدنيا”.

ثانياً: السياسة الشرعية: ظلال النظام وحراسة الوحدة

في المقابل، تبرز السياسة الشرعية، التي يمثلها السلطان أمير المؤمنين، كحارس أمين للدين ومنظّم حكيم لشؤون الطرق الصوفية، يجسّد أبوية عميقة تجاه أبنائه الروحيين. في المغرب الأقصى، يتجلى هذا الدور الأبوي في البيعة الكبرى، التي تُعد أسمى صور الشرعية، تعلو كشمس على البيعة الصغرى للشيخ، موحدة القلوب تحت راية الإيمان. السلطان، بوصفه حامي الدين وأباً روحياً للأمة، يمنح الطرق الصوفية كالطريقة القادرية البودشيشية دعماً مادياً ورمزياً سخياً، كتمويل الزوايا بكرم يعكس عنايته الدائمة، أو الاعتراف الرسمي بالمشايخ الذين يحظون باحترامه العميق وتقديره البالغ، مما يؤمّن “البركة الظاهرة” التي تمكن الطريقة من البقاء متجذرة في نسيج المجتمع، كشجرة مورقة تظلل الجميع.
تنظم السياسة الشرعية المظاهر الخارجية بدقة أبوية – إدارة الزوايا، تنظيم الأنشطة الروحية، وتوفير الحماية للشيوخ الصوفيين الذين يُكرمهم السلطان كحراس لروح الأمة – لكنها لا تستطيع أن تمس نور السر، الذي يتدفق كنهر باطني نقي، يروي قلوب السالكين مهما تغيرت الأحوال الزمنية أو السياسية. هنا، تبرز أهمية السياسة الشرعية كحارسة للوحدة الدينية، تظل ظلاً واقياً يدعم الظاهر دون أن يمس جوهر الباطن، معززة احترام أمير المؤمنين لشيوخ الطرق الصوفية الذين يراهم شركاء في حفظ التراث الروحي، مقدماً لهم التقدير كما يقدم الأب الرعاية لأبنائه. في هذا التوازن، تتجسد حكمة السلطان الأبوية، التي تحافظ على الانسجام بين الشرع والتصوف، موحدة الأمة تحت مظلة الإيمان الواحد.