19 يونيو 2025 / 20:37

بين عقيدة الردع ووهم الهيمنة: الحرب الإيرانية الإسرائيلية وسؤال التوازن العالمي

الدكتور محمد بشاري
في ذروة تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، يجد العالم نفسه مجددًا على حافة هاوية يتداخل فيها الديني بالجيوسياسي، وتتكشف فيها هشاشة النظام الدولي أمام منطق الهيمنة والإرهاق. هذه ليست حربًا تقليدية بحدود واضحة، بل مواجهة تتشابك فيها مشاريع قومية متمركزة حول التوسع والهويات المغلقة، في مقابل نظام دولي يفقد تدريجيًا أدوات الضبط والاحتواء، ويتحول إلى ساحة صراع غير متكافئ بين من يملك القدرة على تعريف “الشرعية” ومن يطالب بحقه في الوجود والسيادة.

لقد عبّر الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين في تعليقه الأخير عن هذا الوضع بما يشبه بيانًا استراتيجيًا ضد ما يسميه بـ«إمبراطورية الغرب»، التي بحسب رأيه لم تعد تقاتل كما كانت تفعل القوى الإمبريالية في القرون الماضية، بل باتت تستخدم أدوات التفكيك من الداخل، وتُسند مهام التخريب إلى الوكلاء، وتبني قوتها على تآكل غيرها. دوغين لا يرى في ما يجري بين طهران وتل أبيب مجرد نزاع إقليمي، بل يقرأه كفصل تمهيدي في رواية صدام أكبر، تبدأ بإيران ولا تنتهي عند حدود كييف أو تايوان أو باماكو.

ومع أن بعض أطروحات دوغين مشبعة بالحتمية الراديكالية، إلا أن كثيرًا من المراقبين يشاركونه القلق من تحول النظام الدولي إلى منصة لضبط الآخرين دون التزام ذاتي بالقانون، حيث تصبح السيادة سلعة تفاوض، والحدود مفهومًا مرنًا يخضع لإرادة الأقوياء. الصراع بين إسرائيل وإيران في جوهره لا يعبّر فقط عن أزمة أمنية عابرة، بل عن خلل في بنية التوازن العالمي، حيث يرى كل طرف نفسه حاملًا لحقيقة مطلقة، ويبرر العنف بوصفه دفاعًا استباقيًا.

إسرائيل تعيد تفعيل “عقيدة بيغن”، التي تمنع أي خصم من امتلاك قدرة نووية، بينما تصر إيران على أن برنامجها حق سيادي في سياق استراتيجي متصل بمعادلات الردع و”مقاومة” النفوذ الأميركي والصهيوني في الإقليم. هذا التوازن المتأرجح يجعل من كل شرارة عسكرية ممكنة بابًا واسعًا لتصعيد غير قابل للضبط.

لكن وسط هذا الجنون المتبادل، تبرز مواقف عقلانية لا تسبح مع التيار، في طليعتها موقف دولة الإمارات العربية المتحدة بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، الذي قاد جهودًا دبلوماسية عالية المستوى، ارتكزت على تغليب صوت الحكمة والدعوة إلى ضبط النفس والعودة إلى الحوار. منذ اللحظة الأولى للاستهداف الإسرائيلي لإيران، كانت أبوظبي حاضرة باتصالاتها مع طهران وباريس وموسكو وبغداد، ساعية إلى بناء جدار واقٍ من الانهيار، لا يقوم على تسويات وقتية، بل على تصور أخلاقي جديد للأمن الجماعي.

الدعوة إلى ضبط النفس هنا لا تعني الحياد الأجوف أو الانحياز المقنّع، بل تعني الاعتراف بأن لغة الحرب – حين تصبح مألوفة – تهدد بانهيار كل ما يُبنى بالسياسة والقانون. السلام ليس حالة سكون، بل نتيجة منظومة متوازنة من الردع والعدل والتفاهم، وهذا ما تسعى الإمارات إلى صياغته بدبلوماسية شجاعة، ترى أن تفكيك الصراعات لا يكون عبر تطبيع الألم، بل عبر تحرير المنطقة من منطق الثأر والتوسع العقائدي.

وإذا كان دوغين يرى أن العالم ماضٍ نحو صدام شامل لا مفر منه، فإن الإمارات – بخلاف هذا الطرح – تراهن على هندسة استباقية تدرأ الانفجار لا تنتظره، وتعيد تعريف النفوذ باعتباره مسؤولية لا استحقاقًا. إنها تطرح خيارًا ثالثًا بين الصدام والاستسلام: بناء تحالفات عاقلة، تستعيد القانون الدولي من رماده، وتعيد للمنطقة حقها في الحياة بكرامة وسلام.

يبقى السؤال المقلق: هل تستطيع الإرادة السياسية العاقلة، مهما عظمت، أن توقف قاطرة التصعيد حين تسير بها الأوهام القديمة؟ أم أن المنطقة مقبلة على لحظة انفجار يتجاوزها صوت العقل، ويتعذر معها حتى مجرد الحديث عن التوازن؟