![بين الوهم والحقيقة: كيف تعكس آية “أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ” آليات التفكير النفسي؟](https://dinpresse.net/wp-content/uploads/cache/assila-6v425wuw8cr1pbei4xy5ui393lwwutf2n0ukfcwebff.jpg)
محمد عسيلة
لطالما وجدتُ في القرآن الكريم مرآة تعكس أعمق آليات التفكير النفسي، وكثيرًا ما أقف عند آياته لأتأمل كيف تصف بدقة تفاعلات الإنسان مع قناعاته، وصراعاته الداخلية، وطريقة إدراكه للحقائق.
وفي خضم تأملي لهذه المعاني، أجد نفسي حائرًا أمام بعض الصراعات التي تنشأ داخل بيوت الله، خاصة في سياق الهجرة، حيث ينبغي أن تكون هذه المساجد منارات للوحدة والتآخي، لكنها أحيانًا تصبح مسرحًا لخلافات تعكر صفو رسالتها.
إنها ظاهرة تستدعي الفهم العميق قبل البحث عن الحلول، فهذه المساجد لم تُبنَ عبثًا، بل أسسها رجال ونساء من مغاربة العالم، حملوا همَّ الحفاظ على الهوية والدين في بلاد الغربة، وتركوا لنا هذه البيوت أمانةً في أعناقنا. ومن هذا المنطلق، أجد نفسي مدفوعًا للبحث عن مسالك للفهم أولًا، ثم استكشاف السبل الكفيلة بإعادة بيوت الله إلى دورها الحقيقي، بعيدًا عن الصراعات التي لا تزيدنا إلا فرقة.
القرآن الكريم يحمل في آياته دروسًا نفسية عميقة، تعكس فهمًا دقيقًا للطبيعة البشرية وآليات تفكيرها.
في قوله تعالى: “أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ”، نجد توصيفًا دقيقًا لحالة نفسية معروفة في علم النفس، وهي الانحياز المعرفي والتبرير الذاتي، حيث يميل الإنسان إلى تصديق ما يتوافق مع أفكاره، حتى لو كان ذلك خطأً واضحًا.
تشير الدراسات في علم النفس المعرفي إلى أن الإنسان غالبًا ما يقع في فخ الانحياز التأكيدي، وهو الميل إلى البحث عن المعلومات التي تدعم قناعاته، وتجاهل ما يخالفها. وهذا ما تلمح إليه الآية حين تتحدث عن من زُيِّن له سوء عمله، إذ يصبح مقتنعًا بأنه يسير في الطريق الصحيح، رغم وضوح الخطأ لمن حوله. هذه الظاهرة تُفسَّر أيضًا بما يُعرف بـ التنافر المعرفي، حيث يسعى العقل إلى تقليل التوتر الناتج عن تناقض المعلومات، فيميل إلى تبرير السلوكيات الخاطئة عوضًا عن تصحيحها.
من ناحية أخرى، أثبتت الدراسات العصبية أن الاعتقادات القوية ترتبط بآليات الدماغ العصبية، حيث تؤدي إلى إفراز الدوبامين، مما يجعل الشخص يشعر بالراحة والرضا عندما يبرر أفعاله، حتى لو كانت خاطئة. وهذا ما يجعل بعض الأفراد يستمرون في طريقهم رغم الأدلة القاطعة على خطئهم، إذ يصبح الاعتراف بالخطأ مؤلمًا نفسيًا، ويتطلب جهدًا فكريًا كبيرًا للخروج من هذا النمط.
في المقابل، تبرز الآية مفهومًا آخر في علم النفس، وهو المرونة المعرفية، أي القدرة على تغيير القناعات عند مواجهة أدلة جديدة. فمن يتمسك برؤيته دون مرونة، يصبح عقله أسيرًا للصور المشوهة، ولا يستطيع التمييز بين الحق والباطل. وهنا يأتي دور الهداية الربانية التي توجه العقول المتفتحة لقبول الحق، بينما تترك العقول المتحجرة في ضلالها.
الجانب الآخر من الآية يتحدث عن أثر هذه الظاهرة على الآخرين، إذ يقول الله لنبيه: “فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ”. من الناحية النفسية، هذا توجيه عظيم لتجنب الإرهاق العاطفي الناتج عن الحزن الشديد على من يرفضون الحق. في علم النفس، يُعرف هذا بـ الإرهاق العاطفي، وهو حالة تصيب الإنسان عندما يستنزف طاقته في محاولة إصلاح الآخرين دون جدوى.
من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالأسى لرؤية شخص يصر على الخطأ، لكنه لا يجب أن يسمح لهذا الشعور بأن يستهلكه نفسيًا، لأن ذلك قد يؤدي إلى الإحباط وفقدان التركيز على الرسالة الأساسية، وهي البلاغ والدعوة إلى الحق.
بهذا، تقدم الآية نموذجًا متكاملًا لفهم التفاعلات النفسية بين الإنسان وقناعاته، وبين الداعية ومن يخاطبهم. فهي تؤكد أن الحق ليس مجرد معلومة تُقدَّم، بل يحتاج إلى استعداد نفسي لتقبله. وفي الوقت نفسه، تقدم توجيهًا نفسيًا متوازنًا بعدم الاستغراق في الحزن على من يرفض الحق، لأن الهداية في النهاية بيد الله، وهو العليم بما يصنعون.
ـــــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23261