عز الدين الجباري
بين التلمذة والنقد: قراءة في دراسة وحدة الديني والفلسفي في مشروع أبو يعرب المرزوقي الحضاري
تُعد العلاقة بين الدين والفلسفة من أعقد الإشكاليات في الفكر العربي الإسلامي، وقد سعى أبو يعرب المرزوقي إلى إعادة صياغتها في إطار مشروعه الحضاري الذي يقوم على مبدأ “الحنيفية المحدثة” والوحدة الشهودية بين العقل والوحي. غير أن قراءة الدكتورة الباحثة حنان فيض الله الحسيني لهذا المشروع، كما وردت في دراستها وحدة الديني والفلسفي في مشروع أبو يعرب المرزوقي الحضاري (2018)، تكشف عن ملامح أزمة أوسع تخص البحث الأكاديمي العربي في تعاطيه مع النصوص الفكرية.
أولا: غياب المنهج التفكيكي
تتسم الدراسة بنزعة تقريرية تقتصر على إعادة صياغة خطاب المرزوقي دون مساءلته. فعندما يقرر المرزوقي أن «العقل الطبيعي هو وحي… فهو إحدى درجات الوحي»، تتلقف الباحثة هذا القول بوصفه بديهية لا تحتمل النقد. وهنا يغيب الدور الفلسفي للباحث بوصفه فاحصا ومفككا للمقولات الكبرى، ويتحول إلى مجرد مفسر تابع.
ثانيا: الحنيفية المحدثة كحل جاهز
تُبرز الدراسة مفهوم “الحنيفية المحدثة” باعتباره أساس التوفيق بين الدين والفلسفة، إذ ترى أنه يقوم على “معقولية الطبيعة ومشروعية الشريعة”. غير أن هذا الطرح يظل داخليا في خطاب المرزوقي، إذ لا نجد أي تفكيك للسؤال: هل يكفي هذا التصور لتجاوز التوتر الإبستمولوجي بين العقل والنص؟ الدراسة تعاملت مع المفهوم كحل ناجز، ولم تفكك بنيته أو تفحص إمكاناته وحدوده.
ثالثا: التبعية بدل الاستقلالية
عندما تؤكد الدراسة أن «الوحدة الشهودية لن تتحقق ما لم يربط المرزوقي بين الفكر الفلسفي والفكر الديني»، فهي تعيد إنتاج خطاب المرزوقي كما هو، من غير أن تطرح أسئلة منهجية: ما المقصود بالشهود والجحود كمقولات فلسفية؟ وما مدى صلابتها كمفاهيم قادرة على التأسيس؟ هذا الأسلوب يجعل البحث أقرب إلى “استظهار” لمقولات الأستاذ، بدل أن يكون تمرينا نقديا مستقلا.
رابعا: مأزق مبدأ الهوية وتحويله إلى “الخلقة الشريعية”
هنا يبرز المثال الأوضح على غياب النقد: يعيد المرزوقي صياغة مبدأ الهوية الأرسطي بتحويله إلى “مبدأ الخلقة الشريعي”، أي أن الهوية لم تعد ثباتا منطقيا، بل صارت مرتبطة بالإرادة الإلهية والقدر. ورغم أن الباحثة وصفت ذلك بإيجاز باعتباره “إدخالا لبعد الصيرورة”، فإن هذا التوصيف يغفل خطورته:
1. الخلط بين الإبستمولوجي والإيديولوجي: إدخال عنصر تشريعي لاهوتي في صميم البنية المنطقية يجعل ما هو إبستمولوجي خاضعا لما هو إيديولوجي تبريري.
2. كارثة على استقلالية العقل: يصبح العقل تابعا للإرادة الغيبية بدل أن يكون أداة مستقلة للتحقق، مما يُلغي وظيفته النقدية.
3. غياب التمييز الضروري: الفيلسوف مطالب بالتمييز بين المبادئ العقلية كنسق إبستمولوجي مستقل، وبين التبريرات الميتافيزيقية أو اللاهوتية. ولكن المرزوقي هنا يخلط بينهما.
4. موقع الباحثة: بدل أن تلتقط هذا الخلط وتفككه، اكتفت الباحثة بالإشارة إليه كإضافة ديناميكية، فانزلقت إلى موقع التابع الذي يبرر ولا ينتقد.
خامسا: البديل في فلسفات الصيرورة
إذا كان المرزوقي قد استعان باللاهوت لتبرير الحركة في مبدأ الهوية، فإن الفلسفتين الحديثة والقديمة قد قدمتا بدائل صورية رصينة من داخل الإبستمولوجيا ذاتها:
هيغل: جعل الهوية متصلة بالتناقض، فالقانون الصوري عنده يقول: الشيء هو ذاته بقدر ما هو نفي ذاته. وهكذا يصبح التناقض محرك الصيرورة، ويغدو المنطق منطقا للحركة والجدل، لا للثبات.
وايتهد: في “الميتافيزيقا الصيرورية” ألغى فكرة الجوهر الثابت، وجعل الوجود شبكة من الأحداث
فالكائن ليس هوية ساكنة بل مناسبة فعلية متغيرة. وتضحى الصيرورة هنا هي الأصل، والثبات مجرد لحظة عابرة.
ملا صدرا: بطرحه أصالة الوجود والحركة الجوهرية، جعل التغير في صميم الجوهر نفسه لا في أعراضه. الكائن يتحقق في انتقاله المستمر من حال إلى حال، وهو بذلك سبق فلسفة الصيرورة الغربية في صياغة بديل صوري من داخل النسق الإسلامي.
هذه النماذج تُظهر أن تعديل مبادئ المنطق الصوري ممكن من الداخل، عبر قوانين فلسفية إبستمولوجية صرفة، دون حاجة إلى إدخال عناصر تبريرية من خارج الحقل.
خاتمة: الأكاديمية العربية بين الولاء والنقد
تكشف هذه الممارسة البحثية عن مأزق يتجاوز هذه الدراسة إلى الأكاديمية العربية عموما: حيث يسود منطق التلمذة والولاء للأستاذ أكثر من منطق النقد والإبداع. فإذا كان هيغل ووايتهد وملا صدرا قد طوروا بدائل منطقية صورية لصيرورة الهوية، فإن المرزوقي اكتفى بإدخال التبرير اللاهوتي، والباحثة اكتفت بترديد أطروحته دون تفكيك. ومن هنا، تصبح الحاجة ملحة إلى إعادة تأسيس البحث الأكاديمي العربي على قواعد الحرية الفكرية، والجرأة النقدية، حتى لا يبقى الباحث في موقع “التلميذ”، بل يرتقي إلى موقع “الشريك في إنتاج المعرفة.