د. نعيمة الواجيدي
يتأسس تشبيه التمثيل في البلاغة العربية على علاقة التشابه بين عنصرين مركبين، يُشبهان بعنصرين آخرين مركبين، ولهذا يكون وجه الشبه فيه عبارة عن علاقة منتزعة من متعدد، أي من طرفي التشبيه المركبين، ويمكن أن تتعدد عناصر طرفي التشبيه، كما هو الشأن في بعض تشابيه التمثيل في القرآن الكريم الذي يكاد ينفرد بهذه الخاصة، بالنظر إلي الشعر الذي يتسم فيه هذا التشبيه غالبا بالاقتصار على عنصرين في طرفيه معا.
وقد يرد الطرف الأول من التشبيه التمثيلي في صيغة المفرد، ويرد الطرف الثاني مركبا، ولهذا ننظر إلى الطرف الأول بوصفه مركبا أيضا، ومن ذلك قوله تعالى “واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ،فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيما تذروه الرياح”، وحين نتأمل المشبه به المركب من تفاعل عدة عناصر هي الماء والنبات والهشيم والرياح، نعيد تركيب المشبه الذي ورد في صيغة المفرد، لأن المراد منه تشبيه الحياة الدنيا في حالين، حال النعيم والشباب والقوة، وحال زوال كل ذلك بسبب الموت وزوال الحياة والسعادة التي لاتدوم، وبدلا من أن يرد هذا المعنى في أسلوب مباشر، صيغ في صورة التمثيل، وقد جاءت عناصر المشبه به كلها محسوسة مأخوذة من الطبيعة التي خبرها المخاطب، وأدرك مظاهرها وتقلباتها، ومن ثم فإن المعاني المجردة المتعلقة بنعيم الدنيا الذي لا يدوم، تظهر واضحة للعيان في صورة المشبه به التي يحضر فيها الماء بوصفه منبع الحياة والخير ، حين يختلط بالنبات الذي يصبح غضا ناضرا، ولكن هذا الجمال وهذه القوة يؤولان إلى زوال، وهذا ما تعبر عنه صورة هذا النبات حين ييبس بفعل الحرارة، فتأتي عليه الرياح العاتية، فتذروه وتحمله بعيدا، وكأنه لم يكن يوما موجودا.
وانطلاقا من تمثل المخاطب للمعاني المجردة في صورة حية محسوسة، يدرك أن نعيم الدنيا، مهما كثر وطال، صائر لا محالة إلى الزوال، ويقتنع بهذه الفكرة التي تتضح في ذهنه، فيصبح الطرف الثاني من هذا التشبيه بمثابة استدلال على معنى الطرف الأول، غير أن هذا الاستدلال ليس استدلالا عقليا جافا، ولكنه استدلال بلاغي يكتسب قوته الإقناعية من صياغته البلاغية الجمالية التي تمارس تأثيرها على المتلقي الذي ينفعل بالخصائص الجمالية للتشبيه، وهي خصائص لا تقف عند حد أصالة التشبيه ودقته، ولكنها تتجاوز ذلك إلى جودة الصياغة، وحسن ترتيب المراحل، والإيقاع الناجم عن تكثيف ألف المد،وانسجام الصوامت، هذا فضلا عن الانتقاء المعجمي، فقد وُظف لفظ الماء، لأن المطر ارتبط بدلالة سلبية، ولاسيما بالعذاب الذي أنزله الله تعالى بالأقوام الكافرة، ولهذا يحضر الماء في هذه الصورة محملا بالدلالات الإيجابية التي ارتبطت به في القرآن الكريم.
نقف على تشبيه ثان، يقول فيه الله تعالى: “مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم”
وحين نتأمل الطرف الثاني من هذا التشبيه، نلاحظ أنه مبني على تطور الحبة إلى السنابل السبع التي تحتوي كل منها على مائة حبة، وهذا ما يدعونا إلى أن ننظر إلى المشبه استنادا إلى المشبه به، فالمشبه هو المسلمون الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فيضاعفها الله لهم أضعافا مضاعفة، وينالون عليها أجرا عظيما، وما كان لهذا الثواب أن يظهر بهذا المستوى من العظمة، لولا هذه الصورة المحسوسة المنتزعة من الطبيعة، فهذا الأجر العظيم الذي يناله من ينفق ماله في سبيل الله أجر أخروي قد لا يستطيع المخاطب تمثله، ولهذا قربه تشبيه التمثيل المحسوس إلى ذهنه، في صورة واضحة مفصلة لا تخلو من جمال بلاغي، ناتج عن التكرار المفيد الذي يبئر المعنى ويشحن الآية بطاقة صوتية، تدعم تأثيرها في المخاطب، وتقوي من بلاغة الإقناع، وهو تأثير لا يقف عند حدود الاقتناع بالمعنى، ولكنه دعوة ضمنية إلى ممارسة الفعل، فمن يتمثل هذا التشبيه جيدا، يدرك الأجر العظيم للإنفاق في سبيل الله، ويسعى إلى بلوغ ذلك الثواب ،من خلال ممارسة الفعل نفسه.
إن المتأمل لتشابيه التمثيل في القرآن الكريم،يلاحظ أنها تقوم غالبا على تقريب معنى ذهني من المخاطب، وتقديمه في صورة محسوسة، من أجل إقناعة بذلك المعنى، وحتى إن ورد طرفا التشبيه معا محسوسين، كقوله تعالى: “مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفارا”، فإن وجه الشبه وهو العلاقة بين الطرفين يكون معقولا، وهو في هذه الآية عدم الاستفادة من الشيء المحمول، ولعل قيام تشبيه التمثيل في القرآن الكريم على علاقة معنوية، من أبرز ما يميزه عن تشبيه التمثيل في الشعر وغيره من الخطابات، إذ نجد تشابيه يكون طرفاها محسوسين، ووجه الشبه محسوسا أيضا، والنماذج أكثر من أن تحصى، نقتطف منها قول المعري، يصف ليلة مظلمة تزينها النجوم، فيقول:
ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان
فوجه الشبه محسوس أيضا، وهو لمعان أشياء مضيئة في فضاء أسود، وفي هذا النوع من تشبيه التمثيل تتراجع الوظيفة الحجاجية، لتهيمن محلها الوظيفة الجمالية الإمتاعية.
ونلاحظ أن تشابيه التمثيل في القرآن الكريم لا ترد مقلوبة أو معكوسة، كما هو الشأن في الشعر الذي يعكس فيه الشاعر العلاقة بين طرفي التشبيه، ليبالغ في معنى التشبيه، ويدعي أن المشبه أقوى من المشبه به في صفة التشبيه، ومن ذلك قول الشاعر:
والبدر في أفق السماء كغادة بيضاء لاحت في ثياب حداد
فبياض وجه الغادة في ثيابها السوداء أشد إضاءة وإشراقا من نور البدر في السماء المظلمة، ويعود غياب هذا النوع من التشبيه المقلوب في القرآن الكريم، إلى الوظيفة الحجاجية التي يضطلع بها التمثيل، إذ يرد غالبا من أجل تقديم المعاني المجردة في صورة محسوسة، ومن أجل الإقناع بها.
ومن خصائص هذا التشبيه في القرآن الكريم، تعدد عناصر المشبه به، وهو ما نكاد نعدمه في الشعر غالبا، لأنه يبنى على تشابه طرفين مركبين من عنصرين فقط، ولعل ذلك يعود إلى طبيعة البنية الوزنية لبيت الشعر، وهي بنية لاتستطيع احتواء أكثر من عنصرين في كل طرف، فضلا عن أن ابتكارتشيبه تمثيل متعدد العناصر أمر من الصعوبة بمكان. ومن خصائص التشبيه التمثيلي في القرآن الكريم، بلاغة الحذف التي يتسم بها في كثير من التشابيه التي يرد فيها المشبه في صيغة المفرد، فيركبه المخاطب استنادا الى تركيب المشبه به، وفي هذا دعوة له إلى التفكير والتأويل، وإعادة تركيب التشبيه، من أجل تمثل معانيه واستيعابها والعمل بمقتضاها.
هذه بعض من الملاحظات التي عنت لي، وأنا أقرأ تشبيه التمثيل في القرآن الكريم، وأتأمل سحر بلاغته وإعجازه، وقدرته الفائقة على الإقناع.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=19984