بؤس الخطاب الإنساني المعاصر

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس12 يناير 2021آخر تحديث : الثلاثاء 12 يناير 2021 - 9:48 صباحًا
بؤس الخطاب الإنساني المعاصر

الحسن الزروالي
مختلف أنماط التواصل البشري تتوزع على أنواع من الخطاب الذي يُرسل عادة من مخاطِب إلى مخاطب، سواء كان عبارة عن ملفوظات أو رموز أو إشارات… يتقصَّدُ به صاحبه إيصال المعاني والأفكار إلى الغير. متوسلا في ذلك بمجموعة من الأدوات والآليات المختلفة بغرض تحصيل الإقناع لديه، وجعله يتمثل فحوى الخطاب المرسَل، و يستدخل مضمونه ومحتواه كحقائق موضوعية تصف الواقع دون زيادة أو نقصان، وذلك عملا بالقاعدة الشهيرة التي تقول أن : “الأصل في الكلام الصحة حتى يثبت العكس”.

لكن، قد يحدث أن ينحرف الخطاب عن مقاصده النبيلة، ويحيد عن مقاصده الأصلية، ليحل الكذب محل الصدق، والتضليل محل المكاشفة والمصارحة وقول الحقيقة. فتضيع الحقائق بين ثنايا التمويه، وضروب الخداع…خاصة وأن الإنسان يُبدِع، في الغالب، ويَبرَع في إخفاء عوالمه المظلمة، وأسراره الدفينة، مُؤْثرا الاحتفاظَ بها لنفسه دون أن يُطْلِع عليها أحدا غيره، فلا يُصَرِّح إلا بما يجعله ملاكا طاهرا ناصع البياض أمام الغير.

1 ـ الخطاب الإنساني وتطور تكنولوجيا المعرفة:
مع تطور تكنولوجيا المعلوميات، وما حققته الإنسانية من ثورة على مستوى تقنيات الإعلام والاتصال، ستحدث تحولات كثيرة، جعلت من الإنسان كائنا قلقا، عجولا، لاهثا خلف المعلومة دون أن يمتلك الآليات التحليلية للتحقق من صحتها، ولا الأدوات النقدية والمعرفية التي تؤهله للتحصن والاحتماء من آثارها وتبعاتها، ما دامت أغلبُ الخطابات المستحدثة تَتَمفْصَل فيها المعرفةُ والسلطةُ بلغة ميشيل فوكو؛ هذه السلطة التي تُمارَس عليه باستمرار، تكون بمثابة سيول جارفة تجَرٍّدُ المتلقي من مختلف أدواته الدفاعية، فلا تدع لديه الفرصة لالتقاط الأنفاس، وبناء خطاب مضاد، يصوغه بشكل هادئ، يستطيع بواسطته استعادة التوازن النفسي، وإعادة التموقع في مواجهة هذا الكم الهائل من الأمواج المعلوماتية التي تحاصِرُه من كل جانب.

2 ـ نماذج من الخطابات الزائفة:
ليست الخطابات الزائفة وليدة اليوم، بل رافقت الإنسان منذ القدم، مادام الإنسانُ كائنا يعيش وهو مُؤطَّرٌ بثنائيات وأضداد كثيرة، مثل النور والظلمة، الخير والشر، العدل والظلم، النظام والفوضى…الحقيقة والكذب هي أيضا من صميم التطور الإنساني، بل هي إحدى الثنائيات التي رافقت الإنسان وكان يسعى دوما نحو تغليب جانب الحقيقة على ضدها، والانتصار للحق على مختلف أنواع التضليل والكذب والتزييف التي كانت، وعلى الدوام، قِيَمًا مستهجنة مستبشعة، أو بالأحرى كعلامات على سوء الأخلاق، وانحراف الإنسان عن رسالته الأهم في هذه الحياة.

الملفِت للانتباه أن الإنسان، وبعد أن كان في ما مضى، يُقدِّسُ الحقيقة، وينتفض دفاعا عنها، ويمقت الكذب والتضليل والزيف، بل كانت الحقيقة هي قيمة القيم التي يسعى الكُلُّ لامتلاكها، أو على الأقل الاقتراب من مستوياتها بأكبر قدر ممكن، لأنها كانت بمثابة الضمير الإنساني الذي يجسد صلاح البشرية ونَفْعِها المؤكد. الأكثر غرابة في زماننا الحاضر أن انقلابات كثيرة جرت على مستوى السلوك البشري، أضحى الإنسان بسببها يجري وراء الفضائح، ويتتبع الشائعات والغرائب، وينفر من كل حقيقة أو قاعدة صارمة تُلْزِمه بأي نوع من أنواع المثل أو الضوابط الأخلاقية والقيمية.

بعودة قليلة إلى الوراء، وبالضبط في بداية هذا القرن، طالع الرئيس بوش العالم بخبر مفاده أن العراق لا زال يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وأنه يمثل تهديدا حقيقيا للعالم الليبرالي الحر، فكان أن وقف العديد من أحرار العالم في وجه هذه الفرية الأمريكية، إلا أن الغرب وقف إلى جانب أمريكا، وتحالف ضد العراق إلى أن جرى تدميره، وتجويع شعبه، وقتل الملايين من أطفاله الأبرياء، لتكون الإنسانيةُ على موعد رهيب يؤسس لزمن ما بعد الحقيقة حيث الغلبة لقانون القوة، وبعيدا عن كل حس أخلاقي إنساني، أو معايير دولية واضحة للتمييز بين الصواب والخطأ.

يتواصل مسلسل الشعبوية والزيف لتصيب حممهما العالم بأسره، من عائلة لوبين بفرنسا، إلى فيلدرز بهولندا، والسيسي بمصر، وآخرون بمناطق متعددة من العالم، ليُحَطَّ الرحالُ من جديد في الولايات المتحدة الأمريكية وحدث التنافس الانتخابي المحموم بين دونالد ترامب الجمهوري وهلاري كلينتون الديمقراطية.

لم يكن أحد من المتتبعين يشكك في الفوز السهل لكلينتون على المغمور ترامب، وهذا ما أكدته مؤسسات استطلاعات الرأي في مناسبات متعددة، إلا أن النتائج كانت صادمة ومعاكسة لمختلف التوقعات، لأن الإدارة الانتخابية لترامب استطاعت نهج أسلوب جديد في التنافس الانتخابي، مُعتمِدة بالأساس على توظيف الشائعات، ونشر الأضاليل والأكاذيب وتزييف الحقائق، والتي انطلت على نسبة هائلة من الكتلة الناخبة الأمريكية، والتي أغلبُ مكوناتها لا وقت لديهم للتحقق من صدق الأخبار الرائجة، أو التشكيك في السيولة المعلوماتية التي تتدفق عليهم دون توقف…والنتيجة هي فوز دونالد ترامب بغض النظر عن حجم الأثمان المدفوعة من منسوب القيم والأخلاق والمثل العليا التي يحتكم إليها الإنسان الأمريكي منذ أكثر من قرنين.

يتعمق مسار الشعبوية في أمريكا، ويتواصل مسلسل الخطابات الزائفة إلى أن يصير صناعة يتقنها ترامب ومن حوله، ليُحْدِث انقساما حادا داخل المجتمع الأمريكي، واستقطابا غير مسبوق، سيدق ناقوس الخطر حول مستقبل أمريكا و لحمة مكوناتها، و ديموقراطيتها وريادتها للعالم اللبرالي الحر، ولممارستها السياسية التي لطالما نُظِر إليها على أنها النموذجُ والمثالُ الذي يقود العالم.

أخَصُّ نتائج السياسة الشعبوية تجسدت في اقتحام مبنى الكونغرس من قبل جماهير هائجة، استُثيرت فثارت وهي لا تدري عواقب أفعالها… كل هذا يتم في بلد الثورة المجيدة، والأبطال العظام من طوماس جيفرسون، وابراهام لينكولن، وجورج واشنطن وآخرين… مثلُ هذه الأحداث التي تجري في أمريكا وتتواصل في مناطق مختلفة من العالم تدفعنا للتساؤل عن مستقبل مثل هذه الخطابات الزائفة، وموقعها من بين العديد من الأنماط الثقافية والتواصلية السائدة الأخرى.

3 ـ مستقبل وآفاق الخطابات الزائفة:
أي مستقبل للإنسانية في خضم تنامي مثل هذه الخطابات الشعبوية؟ وأي موقع مرتقب للقيم والحقائق والمثل العليا في علاقتها بأفعال الإنسان وممارساته ومختلف سلوكاته وأفعاله في المستقبل؟

كل المؤشرات تُؤْذِن بتحول القيم الأخلاقية والجمالية، وخفوت تأثيرها على العقول والأذهان، وسيطرة الشعبويين والتافهين وضعاف التكوين العلمي الرصين على مواقع المسؤولية ومراكز القرار، في مقابل تراجع دعاة الحقيقة والمدافعين عن القيم الإنسانية المثلى.

الإنسانية-في اعتقادي-على موعد مع عصر تفكيك الإنسان بلغة المرحوم عبد الوهاب المسيري، و في أحسن الأحوال، سنكون على موعد مع “زمن الأكاذيب النبيلة” بلغة أفلاطون حيث المكانة الاجتماعية تُنالُ وتتأسَّسُ على السخافة والتفاهة، والقدرة على إبداع الفضائح، ونشر الشائعات، وحسن توظيفها للمحافظة على ريادة المجتمع والبقاء في الواجهة.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.