محمد جناي
إنَّ من حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق… الوفاء؛ وإنَّه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات. وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب، لا يحول عنه إلا خبيث الطبع ، لا خلاق له ولا خير عنده.*
يرتكز المجتمع الإنساني على دعائم اجتماعية وثقافية وأخلاقية، تعمل على بقائه واستقراره وتسهم في تطـوره، وتمثل القيم الاجتماعية والثقافية واحدة من أهم تلك الركائز، حيث تمثل المنهل الذي يستمد منه أفراد المجتمع شروط وجودهم ومعايير تفاعلاتهم الاجتماعية، ويعدّ الوفاء واحدًا من أهم القيم الإنسانية التي تسهم بإيجابية في بقاء المجتمع وتطوره.
وفي زمننا هذا اندثر الوفاء، وكثر فيه الغدر والخيانة مع مقت الإسلام لهما وتحذيره من نقض العهد، وفي زمن اللاوفاء الذي نعيشه حاليا تتكشف حقائق البشر وتسقط الأقنعة عند المواقف، وتتضح معادن البشر وتظهر على واقعها الحقيقي إن كانت التنشئة في بيئة صحية نظيفة أو بيئة عفنة مريضة، ولهذا أضحى الوفاء عملة نادرة.
والخلق المذموم المقابل للوفاء هو الغدر والخيانة ، ونكران الجميل ونقض العهود والمواثيق . ومن هنا جعل رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام خلف الوعد وعدم الوفاء علامة من علامات النفاق،والإسلام في بنائه الأخلاقي للإنسان جاء بكل ما هو راق ومتحضر، وسما بأخلاق أتباعه فوق كل الصغائر، ورسم للإنسان حياة راقية تغلفها كل المعاني الإنسانية .
الوفاء في الإسلام له منزلة عليا وهو عبادة روحية وقلبية ولسانية أيضا فقد اهتم بتربية نفوس المسلمين عليه، وقد احتفى القرآن الكريم بكل ما يعمق من خلق الوفاء،حيث وردت آيات في كتاب الله تحث على الوفاء ، منها:
قوله تعالى : وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34].
قال الطبري في تفسير هذه الآية: (وأوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضًا، والبيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34] يقول: إن الله جلَّ ثناؤه سائلٌ ناقضَ العهد، عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم، وبين من عاهدتموه أيها الناس فتخفروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. وإنما عنى بذلك أنَّ العهد كان مطلوبًا.(تفسير الطبري 17/444).
وقال عزَّ مِن قائل: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 19-20].
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية: (أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، أو فيما بينهم وبين العباد وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد:20] الذي وثقوه على أنفسهم، وأكَّدوه بالأيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد التخصيص؛ لأنَّه يدخل تحت الميثاق كلُّ ما أوجبه العبد على نفسه، كالنذور ونحوها، ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس، فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه، ويراد بالميثاق: ما أخذه الله على عباده، حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذرِّ المذكور في قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ (الأعراف:172)(فتح القدير 4/105).
وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10].
– وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1].
قال السعدي رحمه الله : (هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتمَّ قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئًا، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم، والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] بالتناصر على الحقِّ، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع.
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلُّها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها)(تيسير الكريم الرحمن صفحة 218).
لقد وردت أحاديث نبوية عديدة تأمر بالوفاء بالعهد، وتبين حقيقة الغدر، وتنهى عنه، وهي كثيرة، منها:
عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية، وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون، وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر. فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة، ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء). فرجع معاوية( رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع).
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنَّ، كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) . رواه البخاري ومسلم .
قال ابن عثيمين رحمه الله : (وأما إخلاف الوعد فحرام يجب الوفاء بالوعد، سواء وعدته مالًا، أو وعدته إعانة تعينه في شيء، أو أي أمر من الأمور، إذا وعدت فيجب عليك أن تفي بالوعد، وفي هذا ينبغي للإنسان أن يحدد المواعيد، ويضبطها فإذا قال لأحد إخوانه: أواعدك في المكان الفلاني. فليحدد الساعة الفلانية، حتى إذا تأخر الموعود، وانصرف الواعد يكون له عذر، حتى لا يربطه في المكان كثيرًا، وقد اشتهر عند بعض السفهاء أنهم يقولون: أنا واعدك ولا أخلفك، وعدي إنجليزي. يظنون أنَّ الذين يوفون بالوعد هم الإنجليز، ولكن الوعد الذي يوفى به هو وعد المؤمن، ولهذا ينبغي لك أن تقول إذا وعدت أحدًا وأردت أن تؤكد: إنه وعد مؤمن. حتى لا يخلفه؛ لأنَّه لا يخلف الوعد إلا المنافق) (شرح رياض الصالحين4/47-48).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرفع لكلِّ غادرٍ لواءٌ، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان) .
قوله (لكل غادر لواء)قال النووي: (معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس؛ لأنَّ موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر؛ لتشهيره بذلك)(شرح النووي على مسلم) .
وقال القرطبي: (هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل؛ لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر؛ ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف)(فتح الباري لابن حجر (6/284) .
و إذا كانت النفس الإنسانية مزيجاً من الأحاسيس والطباع والأمزجة، التي منها ما يشتمل على الخير، ومنها ما يقع في إطار الشر ، فإن من أجمل السمات الإنسانية التي قد ترقى إليها النفوس، وتشرئب إليها الأعناق، وتتطلع إليها الأفئدة بفطرتها التي جبلها الله تعالى عليها هي صفة الوفاء.
ومن صور الوفاء:
أولا : الوفاء بالعهد الذي بين الإنسان وربه:
فالعهود التي يرتبط المسلم بها درجات، فأعلاها مكانة هي العهد الأعظم، الذي بين الإنسان وربِّ العالمين، فإنَّ الله خلق الإنسان بقدرته، وربَّاه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة، وأن يعترف بها، وألا تشرد به المغويات، فيجهلها أو يجحدها، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس: 60]) (خلق المسلم) لمحمد الغزالي بتصرف يسير (صفحة 50). .
ثانيا: الوفاء في سداد الدين:
اهتمَّ الإسلام بالدَّيْن؛ لأنَّ أمره عظيم، وشأنه جسيم، وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على قضاء الدين، وكان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين حتى يُقضى عنه. وقد قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله) رواه البخاري .
ثالثا: الوفاء بين الزوجين:
الوفاء بين الزوجين، يجعل الأسر مستقرة، والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر.
رابعا:الوفاء بإعطاء الأجير أجره:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه)رواه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (8/13)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره)رواه البخاري.
خامسا: وفاء العامل بعمله:
وذلك بأن يعمل العامل، ويعطي العمل حقه باستيفائه خاليًا من الغش والتدليس، فعن عاصم بن كليب الجرمي قال: حدثني أبي كليبٌ (أنَّه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا غلام أعقل وأفهم، فانتهى بالجنازة إلى القبر، ولم يمكن لها، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سووا لحد هذا. حتى ظن الناس أنه سنة، فالتفت إليهم، فقال: أما إنَّ هذا لا ينفع الميت ولا يضرُّه، ولكن الله يحبُّ من العامل إذا عمل أن يحسن) رواه البيهقي في شعب الإيمان واللفظ له و حسنه الألباني في صحيح الجامع وغيرها كثير.
ونخلص في النهاية إلى أن ثمة ضرورة اجتماعية وأخلاقية وسياسية لبث ثقافة الوفاء وقبولها ونبذ الغدر والخيانة بين فئات المجتمع ، وبالتالي ينبغي أن يتم وضع خطط علمية لنشر تلك الثقافة وتنميتها ومحاصرة كل صور الخيانة والغدر ، وتصحيح المفاهيم والأفكار المغلوطة التي تحاول بعض قوى الشر بثّها بين فئات المجتمع فيما يتعلق بالوفاء ، ولا شك أن سيادة ثقافة الوفاء وحضورها تمثل الحاضنة الاجتماعية والثقافية لكل برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، فالمجتمع الذي يعلي من صفة الوفاء هو المجتمع الأكثر انفتاحًا على التغير والتطور في كافة المجالات.
ـــــــــــــــــــــ
*.(طوق الحمامة لابن حزم صفحة 205 بتصرف).
المصدر : https://dinpresse.net/?p=10478