الوعاظ المغاربة وتحدي الثورة الرقمية

دينبريس
featured
دينبريس10 مارس 2025آخر تحديث : الأحد 9 مارس 2025 - 10:08 مساءً
الوعاظ المغاربة وتحدي الثورة الرقمية

منتصر حمادة
مع قدوم شهر رمضان المعظم، يرتفع الطلب على الخطاب الديني، عند الجميع، وذلك بمقتضى الأجواء الروحانية المصاحبة له، ومن ذلك ارتفاع الإقبال على الخطاب الوعظي [أو الخطاب الدعوي حسب الاصطلاح المشرقي]، ونقصد، ذلك الخطاب الديني الذي يروم الخوض في قضايا الدين، في العقيدة والمذهب والسلوك، انطلاقاً من أرضية دينية وأخلاقية وجمالية.

ومعلوم أن هذا الخطاب، يبقى توجيهياً، إرشادياً، كان ولا زال سائداً في المساجد والزوايا، منذ قرون، ومستمر اليوم، في نفس المؤسسات، مع إضافة المجالس العلمية المحلية وما أصبحنا نعاينه في جمعيات ثقافية ودينية، سواء تابعة لمؤسسات الدولة أو تابعة لجماعات وحركات، سلفية وهابية، إخوانية، وغيرها، وإن كان هؤلاء أقلية، إلا أنهم حاضرون في الساحة، بما في ذلك الحضور في المؤسسات الدينية والتعليمية وغيرها.

يأتي الخطاب الوعظي في سياق بعض مقتضيات الدعوة وتجديد الدعوة، لأن الإسلام دين تذكير وتبليغ. تذكير للمسلمين، وتبليغ غير المسلمين، مادام ديناً بأفق إنساني، ولا يمكن اختزال أفقه في سياق عرقي أو قومي أو شيء من هذا القبيل. “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”. الآية.

من أهم مقومات هذا الخطاب، يمكن استحضار التكوين العلمي، وفي مقدمته التكوين في العلوم الدينية، لأننا نتحدث عن خطاب ديني أساساً، وهذا ما كنا نعاينه عند العلماء المغاربة، وعلماء الوطن العربي بشكل عام. لأنه لكل مجال خطابي أهل الاختصاص، ففي علم الرياضيات، نحتاج إلى أهل الرياضيات، وفي علم الجغرافيا، نحتاج إلى أهل الجغرافيا، والأمر نفسه مع الخطاب الوعظي، حيث نحتاج إلى أهل العلوم الدينية، وهذا ما نعاينه فعلاً في المساجد والزوايا والمؤسسات الدينية، بشكل أو بآخر. وواضح أن التكوين العلمي هنا قد يكون عصامياً كما كان سائداً ولا زال بشكل أو بآخر، وقد يكون في إطار مسار حديث عبر المرور على عدة مؤسسات تعليمية.

ويا حبذا لو ينفتح هذا الخطاب الوعظي على باقي الحقول المعرفية والإبداعية، من باب تغذية وتأهيل مضاعف للعدة النظرية الدينية التي ينهل منها، لأنه كلما كان مؤهلاً، كلما كان أثر الخطاب الوعظي واضحاً لدى المتلقي، موازاة بالطبع مع الأسوة والقدوة في المعني بالخطاب.

من بين المقومات أيضاً، القدرة على التواصل النافع والنوعي، خاصة مع المستجدات التقنية الراهنة، ومنها التحولات المرتبطة بظهور الثورة الرقمية، حيث نعاين عدة دواعي تطلبت حضور الفاعل الوعظي في هذه العوالم، ونذكر منها على الخصوص:

ــ الطلب المستمر على الدين، ويكفي، ما دمنا نعيش أجواء شهر الصيام، الاطلاع على تلك النقاشات حول مبطلات الصوم مثلاً، بل أثيرت منذ سنوات نقاشات حول رأي الشرع الحنيف في موضوع إقامة صلاة التراويح عبر توظيف التقنية الرقمية وما إلى ذلك، وإن كنا في غنى عن إثارة هذه النقاشات، لأنها اقتربت من الخوض في مظاهر الشعائر على حساب روح الشعائر.

ــ من الدواعي أيضاً، ما يمكن الاصطلاح عليه بـ”السيولة الدينية”، حتى لا نتحدث عن الميوعة الدينية، من كثرة الهرج والمرج المتعلق بالحديث في الدين، حيث أصبح كل من هب ودب يتحدث في الدين، كما لو أنه المرجع أو المؤهل لذلك، بينما لا يفعلون ذلك عندما يتعلق الأمر بالخوض في قضايا العلوم الحقة أو العلوم الإنسانية أو قضايا الساحة العلمية العالمية. (مع الإشارة إلى أن مصطلح السيولة هنا، يأتي من باب الاستئناس بأعمال عالم الاجتماع زيجمونت باومان، صاحب “الحياة السائلة”، “الحب السائل”، “الحداثة السائلة”.. إلخ).

ــ من الدواعي كذلك، مواكبة التحولات التقنية المرتبطة بالخطاب، مع ارتفاع الطلب على استهلاك المضمون الرقمي، ومنه المضمون الديني الرقمي، ومن هنا أهمية وضرورة حضور الخطاب الوعظي في الفضاء الرقمي، خاصة مع الحضور المتزايد للخطاب الإسلامي الحركي، السلفي الوهابي والإخواني، والذي يروج رؤى دينية إيديولوجية، إضافة إلى حضور الخطاب الديني المتطرف أو المتشدد، وإن كان أقلية، ولكن مأزق “أسلمة مخيال” المغاربة، يُخوّل لهذا الخطاب أن ينتشر أكثر في الساحة، إذا وجد قابلية من جهة، ووجد تواضعاً في المواجهة المادية والرقمية.

من قلاقل الخطاب الوعظي التي نعاينها في الساحة، سواء كانت تهم وعاظ المؤسسات الدينية، أو وعاظ الإيديولوجيات الدينية، وأيضاً الوعاظ الذين يشتغلون في سياق العمل الصوفي، نذكر على الخصوص معضلة التمركز على الذات الدينية، حضور حظوظ النفس كما نعاين مع الدعاية الرقمية، ظهور خطاب التشدد الديني، الآراء الدينية الشاذة المعادية للفطرة السليمة، وغيرها من الآفات.

ونحن نذهب إلى أن أهل الوعظ الديني، وقبلهم صناع القرار المعنيون بتدبير الحقل الديني، مطالبون بتأمل التأثيرات المركبة للعالم الرقمي على مضامين ومستقبل الخطاب الديني، إن لم نذهب إلى أن ما تحدثه الثورة الرقمية بالخطاب الديني، يُشبه في بعض حيثياته، ما قام به حدث اختراع الألماني غوتنبرغ المطبعة، بما ساهم في طبع الإنجيل وتوزيعه على العامة لاحقاً فالأحرى النخبة بعدما كان متداولاً من قبل عند رجال الدين هناك، بكل تبعات هذا الحدث، ومن تلك التبعات، منعطف مارثن لوثر، الراهب الألماني الذي ارتبط إسمه بإطلاق مشروع “الإصلاح الديني”.

بمعنى آخر، يجب الانتباه إلى التحولات التي تكرسها الثورة الرقمية على الخطاب الديني عند المسلمين، وعند صورة وأداء المؤسسات الدينية، دون الحديث عن المنافسة على القول في الدين، تلك الصادرة عن الإيديولوجيات الدينية والمادية.

بقيت إشارة تهم بعض المفاتيح التي نرى أنها يمكن أن تساهم في ترشيد الخطاب الوعظي الرقمي، إن من حيث المضمون أو الأسلوب أو التلقي.

ــ فمن حيث المضمون، كلما كان الواعظ واعياً بطبيعة ما يمكن الاصطلاح عليه بـ”السوق الدينية”، بتعبير الباحث السويسري باتريك هايني، صاحب كتاب “إسلام السوق”، تلك السائدة في العالم الرقمي، كلما كان تفاعله الرقمي نوعياً، وبالتالي من الأفضل للواعظ الديني الوطني، في المساجد والزوايا والمؤسسات الدينية، أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الحساسيات الفكرية والإيديولوجية السائدة في الساحة، حتى يكون واعياً بطبيعة الخطاب الصالح في مثل هذه السياقات.

ومن الأفضل أيضاً أن يشتغل الواعظ الديني على بعض أدبيات فلسفة الدين وقضايا المشترك الإنساني والنزعة الإنسانية في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتراث الإسلامي.

ــ من حيث الأسلوب، لا مفر من وعي الفاعلين في الخطاب الوعظي الرقمي ببعض تقنيات الفضاء الرقمي، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، بخلاف الأمر مع مواقع شبكة الإنترنت، لأنه مع هذه الأخيرة، يمكن أن تضع مقالات أو دراسات، أو أشرطة، من دقائق أو ساعات، بينما الأمر مختلف كثيراً مع السائد في مواقع التواصل الاجتماعي.

ــ من حيث التلقي، لا مفر من استحضار قاعدة ذهبية، وهي أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وبالتالي، على الواعظ الرقمي، الوسطي والمنفتح والمؤهل، أن يكون حاضراً، ويترك أمر التلقي للزمن والتاريخ، شرط الأخذ بالأسباب، ومن تلك الأسباب ما تطرقنا إليه في موضوع المضمون المطلوب والأسلوب المطلوب.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.