عصام أخيرى، طالب باحث في الفكر الإسلامي
الأستاذ الدكتور أحمد العبادي، أحد مفكري ومجددي الفكر الإسلامي المعاصرين، عرف عنه اهتمام بالغ بهذا المجال في كتاباته، ومقالاته، ومقدماته لمجلة الإحياء، ولعل مما يزيدنا يقينا في ذلك كتابه المتميز “الوحي والإنسان”الذي يلمس فيه القارئ بلاغة الأسلوب، وانتقاء الكلمة من أجل إيصال الفكرة وبلوغ القصد، ببعد دلالي منهاجي. فقد جاء كتابه الوحي والإنسان نحو استئناف جديد للتعامل المنهاجي مع الوحي، الذي هو في حقيقته مجموعة من المقالات التي نشرت في مجلة حراء ما بين سنة ٢٠٠٩، و٢٠١٣، يحمل في طياته خمسة عشر مبحثا، كلها تتمحور حول تجديد منهج التعامل مع الوحي من خلال، مجموع المقالات التي جمعت تحت راية الوحي.
ويرى د. أحمد العبادي في مؤلفه هذا، أن المفردات، عموما تحمل في جعبتها مجموعة من الدلالات، تدل على ذاتها، فحين يستعملها القرآن المجيد في توظيف سياقي، يجعل منه منهجا في ذاته قائما، وتجعل من قرينتها في اللغة العربية مرجعا فكريا تعطي للمركبات بعدا دلاليا منهجيا، فالإلقاء الذي كان موجها للرسول صلے الله عليه وسلمفي قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} سورة المزمل 5 ، يحمل في معانيه دلالات متعددة،مما يجعل القرآن المجيد، منفردا بمنهجية المصطلحات، فتدل على الإلقاء ذاته، ولكنه إلقاء ذو بعد منهجي مما يجعله ملقى إلى الإنسان المكلف، بغية تدبره، ونجده أيضا يدل بصريح العبارة على الدحض، الذي يدحض الباطل بمنهجه القويم، فالبعد النظري الذي لا يدركه القارئ للقرآن المجيد، أنه لا يمكن أن يدرك بعده المنهجي إلا باستحضار الوحدة البنائية للقرآن المجيد، التي تربط آياته مع بعضها البعض، مكونة بذلك تناسقا منهجيا، وبعدا معرفيا،وتجعل من القرآن المجيد جملة واحدة، لا يمكن أن تتجزأ،وتقوم على أساس المنهج القرآني، إذ لا بد للإنسان أن يحدد هذا المنهج المعرفي من أجل أن يدرك المكلف تكامل الخطاب القرآني.
إن التسخير الكوني الذي جعله الله تعالى للإنسان، عندما يرتبط مع الوحدة البنائية…، يجعل المكلفيحقق مقاصد الشارع، ويضمن استمرارية النظام الكوني،من خلال هذه العلاقة الترابطية بين التسخير والعقل البشري، الشيء الذي ينتج عنه ما يسمى بالعلوم التسخيريةالكونية-، والتسيير الذي نتج عن التدبر في القرآن المجيد، أنتج علوما كذلك، لكن العلوم التي نشأت عن التسخير كلها تتقدم في كل مرحلة من مراحل التطور البشري، عكس العلوم التيسيرية التي أصابها بعض الضرر نتيجة التقليد.
وينتقل د.العبادي ليؤكد أن التصديق والهيمنة، مفهومان قرآنيان، ما ارتبطا بمفهوم إلا وجعلاه مطلقا مستمر الدلالة في بعده الحضاري،كما يؤسسان كذلك المفاهيم التي بدورها تؤسس حضارة الشعوب وثقافته.فحين أطلق القرآن المجيد على ذاته “المبين” في قوله تعالى:{ألرتِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}سورة يوسف١،كان الغرض منه جعل القرآن الكريم مصدقا على الهدى والنور والمنهج الرباني الذي كانا في كل من التوراة والإنجيل، قبل أن يطالهما الكتاب (يطالهما الكتاب البشري أم نقول تطالهما أيدي البشر) البشري، ومهيمنا عليهما في ابطال قدسيتهما، والتي نسخها الإسلام، وفي مفهوم الرب الذي كانت العرب تلقب به أصنامها، نجدها -كملة الرب- متجسدة بمفهومها الدلالي و المعنوي، ولكن القرآن المجيد لما استعملها أضفى عليها، منهجا، وبعدا دلاليا، فصارت مصدقة، وصادقة على الخلق الإلهي، فصار بذلك الله رب العالمين، الذي نتلوه في كل يوم، عشرين مرة، في قوله تعالى{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}سورة الفاتحة 2، من خلال منظومة التعارف التي خلق الله المكلفين من أجلها{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰوَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات 13، ومن أجل تحقيق الهيمنة والتصديق لا بد من شروط حددها الدكتور العبادي في سبعة شروط وهي: ١-الإعتقاد الصحيح بأن القرآن كلام الله تعالي كله، ٢-بنائية القرآن المجيد ، ٣-دراسة المصطلحات دراسة محورية، ٤-ضبط الضمائم، ٥- وضوح القضايا المطروحة في القرآن بغية حلها، ٦-الأطر المرجعية التي ينطلق الباحث، ٧-استحضار الإنسانية في البعد التدبري التأملي في البحث .
لقد أمر الله تعالى المكلفين، ابتدءا من النبي@بالجمع بين القراءتين في بداية التنزيل في كهف الإسلام، في قوله تعالي :{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}سوره العلق (1ـ5)، قراءة في الكتاب المسطور، وقراءة في الكتاب المنظور، فكل تكتسب حسب المنهج الذي يمكن لها أن تواكبه، فالأولى في الكتاب المسطور تدبر في القرآن المجيد، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد 24، والثانية تفكر قلبي عقلي في الملكوت، أي الكون المنظور، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}سورة العنكبوت (20)، وهو ما ذهب إليه أيضاالدكتور طه جابر العلواني، في الجمع بين القراءتين من خلال المقاصد الحاكمة العليا، التوحيد و التزكية و العمران ، وفي وحدته البنائية .
إن الإنسان المكلف الذي قصد له في بداية التنزيل الجمع بين القراءتين و أن يحدد الوجهة التي سيصبو إليها حين يتمكن من الجمع، وذلك عبر التأمل في الكون، اهتدءا بالوحي من أجل أن يعرف وأن يكون في محل إثبات وفرض الذات، نجد فو سورة الشمس تناولت المخلوقات على هذا النحو: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا* وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا* وَاللَّيْلِإِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا* وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا* وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*} سورة الشمس (1ـ7)، فكل هذه المخلوقات التي يمكن للإنسان المكلف أن يتفكر فيها ويتأمل بغية الجمع بينها وبين القرآن المجيد، لكن الذي يثير الانتباه أن هذه المخلوقات معرفة غير الإنسان؟ فقد ورد نكرة، وإثبات الذات النفسية، يكون من خلال الجمع بين القراءتين.
مما سبق، لا بد إذن أن يكون للإنسان المكلف وجهة يولي إليها من أجل أن يحقق الأمان الروحي، والراحة النفسية، ولهذا فإن الوجهة التي يولي المسلمون إليها في بعدها الدلالي أبلغ من قبلة يتجه إليها للصلاة، بل هي وجهة تجمع وتوحد الأمة. لذافإن القرآن المجيد الذي هو أصل الحقيقة المطلقة، يمكن أن ندرك بعده المنهجي من خلال التأسي بالتراث النبي صلے الله عليه وسلمفيكيفية محاورته والنهل من معارفه وحقيقته، التي جسدها النبي صلى الله عليه وسلم في سلوكه، وحياته اليومية، بحيث ينبغي التعامل مع هذا التراث تعاملا فلسفيا يطرح الأسئلة المنهجية المستوعبة لمفهوم الحضارة والبعد المعرفي فيه، فمن خلال هذا التأسي يمكن إدراك منطلقحقيقي للجمع بين القراءتين.
ولكي ندرك حقيقة القرآن المنهجية ونستوعبها، كان لا بد من البحث في كيفية تغير المنهجية التي أصبح يتعاملبه القران المجيد، الذي نجد في مجموع ثناياه أن الله تعالى علمآدم كلمات فنطق بها فأصبحت كلمات، لكن حين نطقها القرآن المجيد صيرها قرآنا منهجيا مستوعباللكون.فالقرآن المجيد لا يمكن أن يطلق مصطلحا إلا وقد جعل له ومنه بعدا دلاليا منهجيا، ففي معرض الحديث عن التوراة قال الله تعالى:{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ* وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ* آتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ*}الصافات ( 117 ـ114، أما في معرض الحديث عن القرآن الكريم في القرآن المجيد ذاته، فقال الهْ تعالى:{الرتِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} سورة يوسف1، ولعل الناظر في البعد الدلالي يلمس من خلال التدبر في هذين المصطلحين، أن الكتاب المستبين، كتاب خاص بقوم معين دون غيرهم، لهذا كانت التوراة كتابا خاصا ببني إسرائيل، والكتاب المبين كتابا مهميناوعالميا، قائما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولما كان كذلك، كان ولا بد أن تتجلى فيه معالم المنهج الذي يمكن إدراكه من خلال الحوار المتبادل مع القرآن المجيد، الذي دلنا على قراءتين، قراءة فيه، وقراءة في الكون الذي حاوره العقل الغربي، فأبدع من خلال الإكتشاف والحوار ما يفوق الخيال البشري باعتبار سنن الله في كونه سارية على الكل. ولهذا فإن التخلف الفكري في العالم الإسلامي اليوم ناتجعن إهمال قراءة الكون، والتخلف الروحي الذي يعيشه الغرب اليوم ناتج عن إهمال قراءة الوحي، ولا يمكن للإنسان إدراك الحقيقة المطلقة إلا من خلال الجمع بينهما.
وقد حدد الدكتور العبادي مجموعة من المستويات للتعامل المنهجي مع القرآن المجيد والتي من خلالها يمكن تدبر متاب الله تدبرا قلبيا عقليا منهجيا، تمثلت هذه المستويات في:
١-مستوى القراءة من خلال تلقي الكلمات وتعليم آدم الأسماء كلها.
٢- مستوى التلاوة ، من خلالها يقتدى بالرسولالنبي صلے الله عليه وسلم، الذي جسد القران الكريم في حياته.
٣- المستوى الترتيلي، الذي ينتقل به إلى الفهم النسقي للمفاهيم.
٤- المستوى النسقي أو الأطر المرجعية، التي لا بد منها، وذلك من أجل الجمع بينها لاستكمال المستوى النسقي {الإنسان المال المجتمع، الفتنة الهدى الضلال….}.
٥-المستوى التنزيلي” .
وبغية تجديد العلوم الإسلامية، يطرح الدكتور العبادي مجموعة من الإشكاليات: “كيف يمكن فهم الخطاب الديني، أو بعبارة أخرى كيف نفهم النص الديني؟ كيف يمكن فهم الواقع؟ كيف تنزل أحكام النص المطلق؟” ، لذا كان لزاما أن نحدد أولا مجموع العلوم الإسلامية التي يمكن ممارسة عملية الاجتهاد فيها، والتي نجد من بينها علم الجمع بين القراءتين، وعلم الوحدة البنائية، التي غفل عنها مؤسسو هذه العلوم، فلابد إذن لتجديد هذه العلوم الثابتة بحق، أن نؤسس لها دعائم، ومقومات، ونطلق البحث فيها جملة وتفصيلا، وكذا إزالة النزعة التقليدية والمذهبية، وكذلك المنطق الأرسطي الذي يعتبر العقل أصل المعرفة، فعلم الجمع بين القراءتين يناقض المنطق الأرسطي في اعتبار أن القرآن المجيد أصل المعرفة.
ويرى د.أحمد العبادي أن الواجب هو أحد المفاهيم التي تشكل دعامة أساسية في منهجة القواعد الأصولية. والفقهية، بل إن تعلقه بمقاصد الشريعة، جعل منه مفهوما يندرج ضمن ما طلب الشارع فعله على وجه الإلزام، وبهذا يكون مفهومه عند الدكتور العبادي، واجب الجمع بين القراءتين والاجتهاد في سبيل تجديد العلوم الإسلامية، التي لحق بها الضرر بتضرر العقل العربي، من خلال ما يمكن ملاحظته في ما يتعلق بالحقوق الإنسانية والتي تدعوا إليها جميع المنظمات الحقوقية، والميثاق الذي أصدرته منظمة حقوق الإنسان، في مجموع الحقوق التي أثبتها، والتي يجب أن يتمتع بها كل إنسان، كان القرآن المجيد السباق إلى منهجية تلك الحقوق في مختلف سوره، وخاصة الشق المتعلق بالقرآن المكي، الذي يفك الإنسان من أدني مستويات الذل، وفقدان الكرامة، كسر عبادة الأوثان، واستعلاء مكانة الإنسان، داخل مجتمعه.
وقد ختم الأستاذ الدكتور أحمد العبادي، هذا الكتاب المتميز، بالتعبير عن اعجابه، وشرفه الذي لم يجد كلمات يصوغ بها فرحته وسعادته الغامرة، حين علم أنه من المرشحين لتقديم كتاب المفكر فتح الله كولن، “ونحن نبني حضارتنا” الذي يعتبره من بين الكتب التي لا يمكن إدراك كنهها الممنهج بمنهج الرؤية التي تجمع بين العلم القرآني والعلم الكوني، فلا ريب أن هذا الشرف -كما يقول بنفسه- أعجزه مدة عام كامل، عن كيفية ماهية التقديم الذي سوف يكون عليه، فقد كان له مع الدكتور فريد الأنصاري-رحمه الله- حوارات فتحت له البصيرة، واستوعب من خلالها المنهج الذي سوف يكون تقديما للكتاب.
Source : https://dinpresse.net/?p=5069