الهجرة في ألمانيا وأوروبا وتأثيرها على مغاربة العالم: واقع معقد ومستقبل غير مؤكد

محمد عسيلة
آراء ومواقف
محمد عسيلة11 سبتمبر 2024آخر تحديث : الأربعاء 11 سبتمبر 2024 - 12:45 مساءً
الهجرة في ألمانيا وأوروبا وتأثيرها على مغاربة العالم: واقع معقد ومستقبل غير مؤكد

محمد عسيلة*
تظل قضية الهجرة واحدة من أبرز القضايا التي تشغل الساحة السياسية في أوروبا، وخاصة في ألمانيا، حيث أصبحت الهجرة موضوعاً مركزياً للسياسات الحكومية والنقاشات والمبارزات الحزبية. وبينما تسعى الحكومات الأوروبية، ومن بينها الحكومة الألمانية، إلى إيجاد حلول لاحتواء تدفق المهاجرين واللاجئين، تبقى هذه القضية محاطة بتعقيدات عدة تتعلق بالاقتصاد، الأمن، والاندماج الاجتماعي.

في الآونة الأخيرة، تفاقمت حدة هذه النقاشات بعد فشل المحادثات بين الحكومة الألمانية المتمثلة في ائتلاف “أمبيل” (وتعني إشارة المرور الضوئية المشكلة من الألوان الثلاثة) والمعارضة بقيادة حزب الاتحاد. وكان الهدف من تلك المحادثات هو إصلاح سياسات الهجرة، إلا أن الفشل في التوصل إلى اتفاق يثير تساؤلات حول مستقبل الهجرة في البلاد وتأثير هذه السياسات ليس فقط على المهاجرين داخل ألمانيا، بل أيضاً على الجالية المغربية الكبيرة في أوروبا، التي تلعب دوراً مهماً في بناء جسور اقتصادية واجتماعية بين بلدانهم الأصلية ومجتمعاتهم الجديدة.

خلال الاجتماع الأخير الذي عقد في 10 شتنبر 2024 بين ممثلي الحكومة الألمانية وحزب الاتحاد، بقيادة نانسي فيزر، وزيرة الداخلية الفيدرالية، لم يتم التوصل إلى اتفاق حول كيفية إصلاح سياسات الهجرة. وطرحت الحكومة خطة لتسريع إجراءات الهجرة على الحدود الألمانية من خلال ما يسمى بعملية “دبلن”، التي تنص على أن الدولة الأوروبية الأولى التي يدخلها طالب اللجوء هي المسؤولة عن معالجة طلبه. هذا الإجراء يشمل عدة دول داخل الاتحاد الأوروبي، وليس دولة واحدة بعينها، حيث يُفترض أن الدول الأعضاء تتعاون فيما بينها لتحديد الدولة المسؤولة وفقًا للقوانين المعمول بها.

ومع ذلك، يرى حزب الاتحاد أن هذه الإجراءات المقترحة غير كافية لتحقيق السيطرة الكاملة على تدفقات المهاجرين. ويطالب الحزب باتخاذ إجراءات أكثر صرامة، بما في ذلك ترحيل أكبر عدد من المهاجرين مباشرة من الحدود الألمانية إلى الدول الأوروبية الأخرى، التي قد تكون أكثر ارتباطًا بحالات اللجوء بناءً على مسارات الهجرة الأولية. حزب الاتحاد يعتبر أن الإجراءات الحالية لا تلبي حجم التحديات المتزايدة في إدارة الهجرة، ويدعو إلى تشديد الرقابة الحدودية بشكل أكبر وتعزيز التعاون الأوروبي.

في عام 2024، شهدت ألمانيا حسب دويتشه فيله ارتفاعًا في عدد طلبات اللجوء، حيث من المتوقع أن يتراوح عدد الطلبات بين 280.000 و 300.000 طلب خلال العام. يُعد هذا الارتفاع استمرارًا للتحديات التي واجهتها البلاد في السنوات الأخيرة، خاصة بعد تدفق اللاجئين من أوكرانيا والدول الأخرى في السنوات السابقة. وقد بلغ عدد طلبات اللجوء في ألمانيا في عامي 2022 و2023 ما يقارب 596.000 طلب، بما في ذلك أكثر من مليون لاجئ حرب من أوكرانيا. هذه الأرقام تضع ضغطًا هائلًا على البلديات والولايات الفيدرالية التي تتعامل مع تدفق المهاجرين والمشاكل المرتبطة بتوفير الخدمات لهم.

بالإضافة إلى ذلك، تعزز صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) اليمين المتطرف من حدة النقاشات حول الهجرة. فقد حقق الحزب مكاسب كبيرة في الانتخابات الأخيرة، مما جعله لاعبًا رئيسيًا في السياسة الألمانية، خاصة في شرق البلاد. يدعو الحزب إلى تشديد سياسات الهجرة وزيادة عمليات الترحيل، وهو ما يشكل تحديًا كبيرًا للمهاجرين في ألمانيا وأوروبا. وتهدف سياسة الحزب إلى إعادة اللاجئين إلى “دول آمنة”، مما قد يعرّض العديد من المهاجرين، لمخاطر الترحيل أو التعرض لصعوبات أكبر في الحصول على اللجوء.

كما تسعى الحكومة الألمانية إلى تسريع عملية البت في طلبات اللجوء وتقليل فترة الانتظار إلى ما بين ثلاثة وستة أشهر بدلاً من العامين الحاليين. ومع ذلك، تواجه هذه الإصلاحات تحديات كبيرة بسبب البيروقراطية وارتفاع عدد الطلبات. هذه التطورات تزيد من قلق المهاجرين ، الذين يعتمدون على استقرار السياسات الألمانية للبقاء والعمل في البلاد.

ومع ذلك، يبدو أن الحلول المقترحة من الحكومة لم ترضِ المعارضة. فقد صرح فريدريك ميرتس، زعيم حزب الاتحاد، أن الحكومة لا تملك رؤية شاملة لتقليل أعداد اللاجئين بشكل جذري. في حين دعا بعض المسؤولين المحليين، مثل وزير الداخلية في ولاية هسن، إلى “تحول جذري” في سياسات الهجرة.

المشكلة لا تقتصر على ألمانيا وحدها. في جميع أنحاء أوروبا، تواجه الدول ضغوطاً متزايدة بسبب الهجرة غير الشرعية. في إيطاليا، أعلنت السلطات عن انتشال ست جثث لمهاجرين لقوا حتفهم في البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من سواحل صقلية. وفي فرنسا، أنقذت السلطات 223 مهاجراً من الغرق خلال محاولتهم عبور بحر المانش في غضون 48 ساعة.

في ظل هذه الضغوط، تتنامى الأصوات في أوروبا التي تطالب بتوحيد الجهود بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لمواجهة أزمة الهجرة. ومع ذلك، تبقى التحديات كبيرة، حيث ترفض بعض الدول استقبال المهاجرين الذين يُعادون بموجب اتفاقية دبلن، مما يعقد محاولات إيجاد حل جماعي.

لقد لعب المغاربة دورًا بارزًا في استقرار السلم الاجتماعي والاقتصادي في أوروبا على مدار أكثر من نصف قرن. فمنذ الستينيات، توافد المغاربة إلى دول مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا للمساهمة في إعادة بناء اقتصاداتها بعد الحروب، وخاصة في مجالات العمل الصناعي والزراعي. هؤلاء العمال المغاربة، الذين أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي الأوروبي، قدموا إسهامات مهمة في نمو الاقتصاد الأوروبي من خلال عملهم الدؤوب ومساهماتهم في مختلف القطاعات.

ومع ذلك، وفي ظل تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين في بعض الأوساط الأوروبية، أصبح العديد من المغاربة عرضة للاتهامات والعداء، خصوصًا مع تنامي التيارات الشعبوية التي تستغل موضوع الهجرة لزيادة شعبيتها. ويواجه المغاربة كجزء من الجالية المسلمة في أوروبا تحديات متزايدة تتعلق بالإسلاموفوبيا والعنصرية. هذه التيارات لا تأخذ في اعتبارها الإسهامات التاريخية والمستمرة للجالية المغربية في بناء المجتمعات الأوروبية.

في هذا السياق، يجب أن تلعب الجاليات المغربية، بما في ذلك المساجد والمؤسسات الاجتماعية والفاعل المدني، دورًا نشطًا في مواجهة هذه التحديات. من الضروري أن يخرج المغاربة إلى ساحات الحوار والتواصل مع وسائل الإعلام الأوروبية والألمانية، لتوضيح إسهاماتهم الإيجابية والمستمرة في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، يجب عليهم تعزيز مناعتهم النفسية والروحية ضد حملات التشويه من خلال تكريس مبادئ التسامح والتعايش، وتفعيل دور المؤسسات الدينية والاجتماعية في توعية الشباب وتحصينهم ضد مظاهر العنصرية والإقصاء.

ولا بد من الإشارة في هذا المقال إلى أن التدين المغربي، المستند إلى مرجعية إمارة المؤمنين، يشكل عاملاً أساسيًا في دعم التعايش السلمي والمجتمعي داخل الجاليات المغربية في أوروبا. تعتبر إمارة المؤمنين مؤسسة فريدة من نوعها في العالم الإسلامي، حيث تجمع بين الدين والسياسة تحت قيادة الملك، أمير المؤمنين، الذي يُعتبر رمزًا للوحدة والاعتدال. هذه المؤسسة تعمل على حماية الإسلام الوسطي المعتدل في المغرب، وهو نفس المنهج الذي يعتمده المغاربة في دول المهجر.

فمن خلال هذا النهج الوسطي، أسهمت وستعم الجالية المغربية في نشر قيم التسامح والعيش المشترك في المجتمعات الأوروبية، بعيدًا عن التطرف والانغلاق. فالمغاربة في أوروبا، مدعومين بالقيم الدينية والاجتماعية التي تربوا عليها في وطنهم، يُعتبرون سفراء للتعايش بين الأديان والثقافات، مما يعزز دورهم الإيجابي في مواجهة الإسلاموفوبيا والعنصرية. وبهذا قد تستفيد أوروبا وألمانيا نموذجا من مغاربة العالم في تدينهم لكسب رهانات التصدع المجتمعي المستقبلي وضياع الاستقرار والانسجام الاجتماعي.

لذلك، يعتبر التدين المغربي وإمارة المؤمنين ركيزة أساسية لتعزيز مناعة الجالية ضد التحديات التي تواجهها، سواء كانت حملات تشويه أو عداء ديني. من خلال تقوية العلاقات بين المساجد والمؤسسات الاجتماعية والدينية، ومن خلال نشر قيم الحوار والاعتدال، يمكن للجالية المغربية التصدي لهذه التحديات بروح إيجابية وبنية تعزيز السلم الاجتماعي، الذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من القيم التي تتبناها إمارة المؤمنين.
إن تفعيل هذا الدور سيمكّن المغاربة من حماية هويتهم ودورهم داخل المجتمعات الأوروبية، مع تعزيز قيم التعايش والاحترام المتبادل التي كانت وما تزال جزءًا لا يتجزأ من الثقافة المغربية.

ويجب تسليط الضوء كذلك في هذا المقال على أن هذه السياسات قد تساهم في تضييق الفرص أمام المغاربة الجدد الذين يسعون لدخول أوروبا، حيث ستصبح عمليات التدقيق أكثر صرامة والإجراءات أكثر تعقيداً. ومن هنا، قد يشهد المستقبل القريب انخفاضاً في أعداد المهاجرين الجدد من المغرب إلى أوروبا.

في ظل هذه التطورات، من المهم أن تتبنى الحكومات الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا، سياسات توازن بين حماية حدودها وحقوق الإنسان. إن محاولات إغلاق الحدود بشكل كامل تعتبر غير واقعية، كما أشار المعلق السياسي فرانك يان، إذ أن الحلول يجب أن تكون شاملة وتراعي الجوانب الإنسانية والاقتصادية في آن واحد.

في الوقت نفسه، يجب أن تلعب الحكومات المغربية دوراً أكبر في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخل المغرب لتقليل دوافع الهجرة. ولا يمكن حل مشكلة الهجرة بشكل كامل إلا من خلال تحسين التعاون بين الدول الأوروبية والمغرب وتعزيز التنمية في المناطق المصدرة للهجرة.

أزمة الهجرة في ألمانيا وأوروبا تسير نحو مزيد من التعقيد، ويتطلب الحل تعاوناً أوروبياً شاملاً بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع الدول المصدرة للمهاجرين مثل المغرب.

وبينما تحاول أوروبا تشديد سياساتها للهجرة، يبقى السؤال: هل ستكون هذه السياسات قادرة على تحقيق التوازن بين السيطرة على الحدود واحترام حقوق الإنسان؟

في الوقت نفسه، يواجه مغاربة العالم تحديات جديدة تتطلب استعداداً مستمراً للتكيف مع الأوضاع المتغيرة في أوروبا.
ــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.