26 أغسطس 2025 / 09:39

المولد النبوي الشريف وإبلاج فجر جديد

د. إبراهيم حدكي

أطل على الإنسانية اليوم أنوار ربيعها؛ شهر ربيع الأول، شهر ربيع الأزهر، شهر البهجة والسرور، شهر ربيع الأكرم، زمن العاشقين والمحبين، أهل الصبابة والوله والهيام، المتشوّفين والمشتاقين إلى الجناب النبوي الكريم.

شهر يستحضر فيه المسلمون أجمع فضل الله عليهم ومنّته ورحمته بهم وكرمه عليهم، قال جلّ وعزّ: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.”

لقد كانت البشرية قبل هذا الانبجاس النوراني تعيش في تيه وظلمة وحيرة، تتقاذفها أمواج شتى وويلات مختلفة؛ تشرذم اجتماعي، وتمزق أخلاقي، واستصنامات عقدية وأوهام فكرية واجتماعية تهضم الكرامة البشرية، وتنزع منها فطرتها الربانية بعد طول الأمد وكثرة الغفلات وقسوة القلوب وانحرافها عن أصلها.

في ظل هذا التيهان الذي ساد العالم المظلم، وفي ظل الفقدان الحقيقي للوجهة المنشودة، أكرم الله العالم بمكوناته المختلفة بمكرمة ربانية نورانية، هي ميلاد خير إنسان، سرّ جمال الوجود وأعظم موجود، زين الرجال وأكرم المرسلين الأخيار، صاحب الطلعة البهية، الرحمة المسداة للعالمين صلى الله عليه وسلم.

لقد كان ميلادا غير مجرى التاريخ، وحول مساره المظلم إلى مسار مشرق وضّاء، وانتكست مع هذه النورانية النبوية المحمدية أعلام الظلم والشرك والطغيان، واهتزت الأرض فرحا وإجلالا لمولده، شبيهة بعروس هزها الطرب.

قال سيد المحبين الإمام البوصيري رحمه الله:

ليلة المولد الذي كان للدين *** سرورٌ بيومه وازدهاءُ
وتوالت بشرى الهواتف أن   *** قد وُلِد المصطفى وحقّ الهناءُ
وتداعى إيوان كسرى ولولا  *** آية منك ما تداعى البناءُ

إن الميلاد النبوي قد اقترنت به معالم تغيير الوجود البشري، فنقله من دركات البهيمية والغريزية إلى درجات الربانية والكمال، فاستمدت الخليقة من الإمداد النبوي أفضالا كثيرة، وتشكل التأسيس للتغيير على معالم التزكية والتوحيد وقيم الرحمة، فتأسس مجتمع المدينة كنتاج للوثيقة الإنسانية التي حفظت الحقوق وصانت الكرامة البشرية، وزجرت المعتدي والباغي حفاظًا على أمن الإنسانية وكرامة بني آدم، رغم اختلاف الدين والملة، وقد توالت الشواهد الدالة على هذه القيم التي كانت من الرسول الكريم نبراسا وتوجيها، وتنوعت بما لا يحصى.

ومن ذلك ما قالته المستشرقة الألمانية المنبهرة بسماحة سيدنا محمد:

“إن الحكمة الإلهية التي اقتضت أن يكون محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وسجلت إلى الآن رسالة عامة إلى الناس أجمعين بغير تمييز بين جنس وجنس. لقد كان محمد كثير التسامح، وبخاصة مع أهل الكتاب، كما أنه أخذ غير المسلمين بالكثير من الصبر والأناة، لأنه كان يتوقع هدايتهم مع الزمان. وكما كان النبي يعقد المعاهدات مع خصومه المغلوبين على أمرهم، كذلك فعل خلفاؤه. ولما كانت تعاليم النبي وخلفاؤه الأوائل تعتبر بمثابة قانون للمسلمين، فإنه يمكن القول بحق إن الإسلام لم يقتصر على التوصية بالتسامح، بل أدمجه في قانونه السماوي، بحيث صار قاعدة أصيلة من أصول الدين. ولقد كان محمد كرسول يدعو إلى الله رجلا رحيما لين الجانب حتى مع أعدائه الشخصيين، وبذلك اجتمعت فيه فضيلتان هما أكبر ما يصبو إليه العقل البشري: الرحمة والعدالة.”

إن العقل الإسلامي المتبصر والمدرك لمعالم السيرة النبوية، ولحقيقة البعثة المحمدية، حريّ به أن ينهض لبذل السلام، والتنشئة على التساكن، والدعوة إلى التعايش، ونزع ألغام الكراهية والتقتيل والتدمير، فالإنسانية اليوم في حاجة إلى نشر خطاب يؤسس للإيجابية، والاهتداء بجماليات هذا الكون المنظور والمسطور، بعيدا عن خطاب العنف المؤسس على الدين، ومزالق التقسيم والتشرذم والتفكك والترهيب.

ولا شك أن النظر في سيرة سيد الأنام، ونحن في هذا الشهر الكريم، شهر الأنوار، سيبهر كل من أمعن الاستبصار في الشواهد والتصرفات النبوية، وسيتقرر عنده أن هذا الدين رحمة كونية عالمية وليس جحيما وعذابا للبشرية.

حمدا لرب خصّنا بمحمد *** فأنقذنا به من ظلمة ودياجر

لقد أجمع جل الدارسين والباحثين على أن المغاربة لهم تعلق خاص بشهر المولد المعظم، وينزلونه منزلة جليلة، فكلما حلّت غرة شهر الربيع، حلّت معه أنوار سيد الأنام، واستحضر المغاربة الشمائل المحمدية ببكاء وصبابة، وقرئت القصائد والأشعار، وتغنّت الألسن بهجة وسرورا بالذكرى المباركة.

وكان هذا منهج المغاربة ملوكا وعلماء وصلحاء في سائر الأماكن: مساجد، زوايا، مؤسسات، ورباطات، حتى ترسّخت محبة سيدنا محمد في قلوب المغاربة، وصارت ناظمة لحياتهم ومشكّلة لوعيهم الجمعي ولخصوصيتهم الدينية الفريدة.

ورغم بعد المسافة بين المغرب والمدينة حيث مقام سيد الورى، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم سكن الوجدان وصار مهيّجا لقلوب المحبين والعاشقين.

إن هذا الإجلال لمقام سيد الأنام هو الذي شكّل المنظومة الاجتماعية التي يتميز بها المغاربة عبر التاريخ: أمن وأمان، سلم وسلام، تعايش وتساكن، عطف ورحمة.

إنها منظومة متكاملة شكّلت خصوصية مغربية متميزة تحتم الحفاظ عليها وصونها من أدران الأفكار المتطرفة والهدامة، كما تستوجب الاعتزاز بها بما هي هوية أصيلة طبعت تاريخ المغرب عبر العصور.

وليس خافيا على الدارسين أن المملكة المغربية بهذه الخصوصية المتفردة قد صارت نموذجا في تدبير الشأن الديني والتدين، يحتذى به في دول كثيرة، بفضل القيادة الحكيمة لأمير المؤمنين، فحريّ بنا نحن المغاربة أن نفخر بهذا الفضل الذي حظينا به، وبهذه الثوابت الدينية والروحية والمذهبية والوطنية التي تقوم عليها الممارسة الدينية لبلدنا، والتي هي صمام أمان للناشئة والأجيال والمجتمع، وسبب في وحدتنا الدينية والمذهبية والروحية.