د. إبراهيم حدكي
ليس يماري كل ذي بصيرة نافذة أوتي رشدا وحكمة وسداد فهم، في كون الآيات الهاديات الواردة في القرآن المسطور، والتي خوطب بها البشر أجمعون، لها مقاصد سامية ومرامي نبيلة، لعل أهمها التأسيس للتعايش والتآزر بين مختلف البشرية من أجل تحقيق الإعمار والاستخلاف بين العالمين أجمع فوق هذه البسيطة.
ولقد ازداد تعلق حكماء المسلمين وعلماؤهم بها يوما بعد يوم، بعد أن أدركوا هذه المقاصد المحققة لروح الشريعة والتعايش بين مختلف البشر، واستوعبوا هذه المآلات، فنافحوا عنها تأليفا وتبليغا وتطبيقا، وترشيدا للفهم وتحقيقاً للتعايش بينهم وبين غيرهم.
ولعل باعثهم على ذلك ليس هو التعصب أو الحمية، أو روم مظاهر التعصية ومسالك التمزق، بقدر ما كان الدافع والباعث على منافحتهم هو ذلكم الاندهاق والانبجاس المعرفي والقيمي الذي حواه القرآن الكريم، فأعجز الناظرين بعالمية هذه الرحمة المحققة للتساكن، وكذا ما تضمنه القرآن الكريم من خصائص كلية متعددة تخدم آدمية الإنسان، مثل الواقعية والربانية والصلاحية لكل زمان ومكان، وما يثمره ذلك كله من قيم التسامح ونبذ العصبية المقيتة والكراهية البغيضة.
إن كل ميسم مما ذكر يعتبر مسلكا متفردا وجزئية تنتظم في إطار كلي معتبر شرعا، به يتحقق المقصد الرباني المبارك في أبهى تجلياته، إنه الوعد الحق: الاستخلاف المنتج للإعمار، والباني للإنسان والأوطان، فتكتمل بذلك جدلية بناء الإنسان والعمران في إطار كلي، أصله التسامح وغايته التعايش مع الآخر.
ومن أعظم هذه القيم المؤسسة للمعاني السالفة الذكر والتي تعين على تنزيل سليم لهذه القيم في إطار قالب مجتمعي منظم، قيمة المواطنة، بما هي إطار جامع وناظم للحقوق والواجبات.
فالمقصود بقيمة المواطنة؟ وما هي تأصيلاتها في التشريع الإسلامي؟ وما هي القيم والمبادئ المعينة على تمثل المواطنة فهماً وتطبيقاً؟
لقد تشكل الإطار المفاهيمي والعملي للمواطنة في رحم العلوم السياسية، وصار إطلاقها الدلالي يعني ذلك النوع من العقد بين الفرد والدولة، تترتب عليه حقوق وواجبات كالأمن والحماية والتطبيب والتعليم… وغير ذلك.
وقصد الإحاطة بهذا المفهوم نرى أنه لابد من الوقوف عند دلالاته المختلفة.
مقاربة مفاهيمية للمواطنة
المواطنة في اللغة: نسبة إلى الوطن، ومعناه المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله. وطن بالمكان وأوطن، أي أقام فيه واتخذه محلاً وسكناً يقيم فيه، والوطن الأصلي هو مولد الرجل والبلد الذي هو فيه.
وإجمالا فإن مفهوم المواطنة هو أنه ذلك السلوك الفردي للإنسان وصلته بالممارسات المجتمعية التي تجلي علاقته بالحقوق والواجبات وتمثله السليم لها، من خلال مختلف الأنشطة والأعمال التي تخرج من رحم الوطن والتي تعود بالمحافظة على بنية الوطن واستدامته.
فالمواطنة إذن هي الإطار الناظم والكلي الجامع والحاضن لمختلف الأفراد المشكلين لبنية المجتمع، بغض النظر عن معتقدهم الديني أو أصلهم العرقي أو غيرها من مظاهر التفاوت الإنساني المعروفة، من خلال تيسير سبل تمكين الإنسان من إنسانيته الكاملة دون حيز أو تمييز بين المواطنين لداع من الدواعي السالف ذكرها.
فإذا علم هذا فإن المواطن الصالح لا يقاس بمدى تدينه أو وفائه لمعتقده أو حرصه على هجر غيره، بقدر ما يكون مقياس المواطنة الصالحة هو الاندماج في الوطن من خلال جملة من المعالم المسهمة في نمو الوطن ولم شعثه وشمله، ومنها:
ـ المشاركة الفعالة في هموم الوطن
ـ الاعتزاز بالوطن
ـ الإنتاجية في العمل
ـ المحافظة على الحقوق والواجبات
فالمواطن الصالح والكيس هو الذي استجمع هذه الأوصاف وكان في منأى عن السلبيات التي تقدح في وطنيته وتجعله فردا غير منتج لوطنه، من خلال تجنب الوقوع في الأمور السلبية الآتية:
ـ كراهية الوطن
ـ السلوك التخريبي
ـ الخروج على الجماعة
ـ نشر الفتنة وزرع التفرقة
ـ الولاء لغير وطنه
وتحقيقا لهذه المعاني السالفة الذكر، نجد أن الشريعة الإسلامية قد أولت أهمية بالغة لموضوع المواطنة وما يتصل بها من قيم كمحبة الوطن والولاء له، من خلال شواهد كثيرة وتصرفات نبوية ثاوية في كتب السنة والسير.
ومن هذه المشاهد العامة والعظيمة نذكر ما يلي:
الموقف الأول:
روى أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته وإن كانت دابة حركها. وفي شرح معنى هذا الحديث يقول ابن حجر رحمه الله: ومعنى “حركها”، أي حرك دابته بسبب حبه المدينة. وفي الحديث إشارة دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه. ويقول ابن بطال: وتعجيل سيره صلى الله عليه وسلم إذا نظر إليها من أجل أن قرب الدار يجدد الشوق للأحبة والأهل، ويؤكد الحنين إلى الوطن، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة.
الموقف الثاني:
ويبرز هذا الموقف فيما روي في السيرة النبوية، حينما نزل الوحيُ على النبي صلى الله عليه وسلم، جاء إلى زوجته خديجة رضي الله عنها وحكى لها ما حدث وقد خشي على نفسه، فقالت: “كلا، والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”. ثم انطلقت به خديجة رضي الله عنها حتى أتت به ورقة بن نوفل، فقالت: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى من الوحي وظهور الملك جبريل له وما قاله له، فقال ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أو مخرجيّ هم؟” قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. وفي تجلية معنى هذا الكلام قال السهيلي: إنما قال ذلك لأن فراق الوطن شديد على النفوس.
الموقف الثالث:
عن أنس رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً وبدا له أحد قال: “هذا جبل يحبنا ونحبه”، ثم أشار بيده إلى المدينة وقال: “اللهم إني أحرم ما بين لابتيها كتحريم إبراهيم مكة، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا”.
الموقف الرابع:
عن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول: “والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت”.
فهذه النصوص تبين فضل محبة الوطن والولاء القلبي والوجداني له. وقد تعلم الصحابة هذا الحب لأوطانهم وترسخت فيهم معالم المواطنة الصادقة في مشاهد كثيرة ومواقف عديدة. ومن ذلك موقف بلال رضي الله عنه وهو يعبر عن شوقه لمكة موطنه:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة **** بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة **** وهل يبدون لي شامة وطفيل
فتظهر هذه الأبيات الحزن الشديد والتأثر البليغ الذي اعترى الصحابي الجليل سيدنا بلال رضي الله عنه على مفارقته لوطنه مكرهاً بعد أن أخرج منها. ورغم إخراجه ظل قلبه معلقاً بالرجوع إلى وطنه، فهو تعلق فطري ازداد رسوخه بالانتساب إلى الدين الكريم الداعي للتعلق بالوطن.
ولكي تتحقق المواطنة بصورة كاملة وتعطي ثمارها الناجعة لابد من إعمال مجموعة من القيم والمبادئ التي تعين على تنزيل المواطنة، والتي تعتبر بمثابة قواعد كلية خادمة للمواطنة ومؤسسة لها، ومن هذه القيم ما يلي:
الدولة الوطنية
من المقرر عند الحكماء والفضلاء أن الدين الإسلامي، بما هو تشريع رباني محكم، هو دين لا يقيم فاصلاً بين المسلمين وغيرهم، بل هناك توجيهات ربانية وإرشادات نبوية داعية إلى الاندماج مع الخلق والتعايش معهم، وهادية إلى تجسير أواصر الترابط والتراحم بين بني الإنسان بما هم مشتركون في أصل الخلقة. فالتعايش بما هو فن من فنون التواصل والتعارف مطلوب شرعاً وحتى عقلاً، بحيث إن الدين لا ينبغي أن يكون حاجزاً في التعايش مع الخلق.
وتحقيق هذه المعاني السالفة لا يمكن أن يكون إلا داخل إطار الدولة المدنية وليس في الدولة الملية. فالدولة هي إطار أوسع من ضيق الجماعة والعشيرة والقبيلة والدين والعرق، وهي جملة من المؤسسات تعين على ضبط شؤون الناس وتجسير العلاقات بينهم، وتعين على تحقيق الكرامة الإنسانية السابقة لكل اعتبار.
ولعل أعظم ما يؤسس لهذا المعنى الحكيم والمتقدم للعلاقات الإنسانية في الشريعة الإسلامية، هو تلك الوثيقة المباركة التي أرساها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والتي تعتبر دستور المدينة وتشكل في الآن ذاته أقدم وثيقة دستورية تضبط العلاقات الإنسانية من منطلق مؤسساتي وليس من منظور ديني.
بحيث نجد أن هذه الوثيقة قد صانت جملة من الحقوق كحق المساواة وحق التملك وحق العدل، وجعلت أمماً مختلفة في الدين والملة والمعتقد والعرق يجتمعون ضمن مؤسسة واحدة هي الدولة الوطنية. مما يجلي حقيقة نبوية مفادها أن الاعتبار بالدولة الوطنية وليس الدولة الملية.
ومما جاء في هذه الوثيقة المباركة ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين…
وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا..
وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم،…
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه».
فقبل هذه البنود التي أرساها الرسول الكريم، كانت هذه الأطراف المتعاقدة تعيش في صراعات طائفية بسبب الدين والعرق والملة. فلما أرسى النبي الكريم هذه الوثيقة، تأسست الدولة الحاضنة لمختلف الأطراف، فصار الولاء للدولة ولمبادئها السامية المحققة للتعايش والعدل، وهجر الناس الولاء للاعتبارات الدينية أو غيرها.
وإننا ونحن في سياقنا المعاصر لابد أن نذكر بكون مقاصد الشريعة الإسلامية تحتم عل المسلم أن يكون ولاءه للدولة ولمؤسستها التي يعيش فيها، ليتحقق له الأمن الروحي والوجداني ويتحقق لها الإقتفاء الكامل للرسول الكريم، أما الولاء للدولة الدينية أو دولة الخلافة أو غيرها من الإطلاقات.. فسيوقعه في مفاسد كثيرة ومزالق شرعية، ذلك أن تدبير سياسة الدين والدنيا هو أمر صار موكولا للحاكم وللمؤسسات التي تنضوي تحت إمرته في تدبير محكم لشؤون المسلمين، والخروج عن مسار هذه المؤسسات المشكلة للدولة الوطنية هو ضرب من التوهم الذي لا يؤول إلا إلى مفاسد شرعية.
(يتبع)