ذ. محمد جناي*
جاءت الشريعة الإسلامية بالأخلاق الحسنة، والصفات الحميدة؛ لأهميتها، وعظم أثرها على المجتمعات، والكتاب والسنة هما مصدرا التشريع لتلك الأخلاق ، ومنهما تستمد أهميتها وشرعيتها ، ومن هذه الصفات الحميدة : صفة المحبة ، فهي من الصفات التي جاءت النصوص في الكتاب والسنة بالتأكيد عليها ، وبيان أهميتها.
فمن ذلك قوله تعالى : ” قُلِ اِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اَ۬للَّهَ فَاتَّبِعُونِے يُحْبِبْكُمُ اُ۬للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ ( آل عمران : 31) ،” فإذا تعلق القلب بالله ، أحب كل ما يقرب إلى الله ويزيده، ويبقى أنه أشد حبا لله ، فلا حب يوازي ذلك الحب ، وإنما يحب بحب الله وله، قال ابن تيمية : ( فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته، فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته، فازداد حبك لله ، كما إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، والمرسلين وأصحابهم الصالحين، وتصورتهم في قلبك؛ فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم ، وبهم إذا كنت تحبهم لله ؛ فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله، والمحب لله إذا أحب شخصا لله فإن الله هو محبوبه؛ فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى ، وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله “(1).
ومن السنة : ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” أنَّ رَجُلًا زارَ أخًا له في قَرْيَةٍ أُخْرَى، فأرْصَدَ اللَّهُ له علَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أتَى عليه، قالَ: أيْنَ تُرِيدُ؟ قالَ: أُرِيدُ أخًا لي في هذِه القَرْيَةِ، قالَ: هلْ لكَ عليه مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟ قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ: فإنِّي رَسولُ اللهِ إلَيْكَ بأنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّكَ كما أحْبَبْتَهُ فِيهِ.( رواه مسلم )
وفي هذا الحديثِ يُخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا أراد زيارة أخيه في الله في قرية أخرى، غير مكان إقامة الزائر؛ فهو بعيد عنه، والظاهر أن المراد بالأُخوة هنا أُخوة الإيمان، لا أُخوة النسب، فأعد الله سبحانه وهيأ وأَقعد في طريق ذلك الرجل الزائر ملكا من عند الله عز وجل، ينتظره ويرتقبه ليبشره، فلما جاء الرجل ووصل إلى المكان الذي فيه الملك، سَأله الملك عن مكان ذهابه، فأجابه أنه يريد زيارة أخ لي في هذه القرية -ولعل القرية كانت قريبة منه، ولذلك أشار عليها-، فسأله الملك: هل لك على الشخص التي تريد زيارته من «نعمة تَربُّها»؟ والمعنى: هل لهذا الرجلِ المزُورِ مِن نعم دنيوية تريد أن تستوفيها له بزيارتك تلك، فأخبَره الرجل أنه لا يزوره لغرض من أغراض الدنيا، وليس لي داعية إلى زيارته إلا محبتي إياه في طلب مرضاة الله، فأخبره الملك أنه رسول من الله أرسل إليه؛ ليبشره بأن الله سبحانه قد أحبه لمحبته صاحبه في الله، ومن أثرها إكرام الله سبحانه، وإحسانه إلى عبده، ورحمته له، ورضاه عنه.
فهذه النصوص ومثلها الكثير تبين فضل صفة المحبة، ومكانتها، وما أعده الله لمن تمثلها، وقام بها حق القيام، وتمسك بما جاء به الإسلام من تعاليم تحافظ عليها من الانحراف ، أو الاندثار، كما أنها تبين اهتمام الإسلام بمنزلتها؛ حيث وضعها في منزلة عالية يثاب عليها الفرد، بل وينزل منزلة عالية عند الله بسببها.
ذكر الطاهر بن عاشور التونسي المالكي رحمه الله أن المحبة هي :” انفعال نفساني، ينشأ عند الشعور بحسن الشيء من صفات ذاتية ، أو إحسان ، أو اعتقاد أنه يحب المستحسن، ويجر إليه الخير، فإذا حصل ذلك الانفعال عقبه ميل ، وانجذاب إلى الشيء المشعور بمحاسنه، فيكون المنفعل محبا، ويكون المشعور بمحاسنه محبوبا”،ومن التعريفات المعاصرة للمحبة ، تعريف الدكتور جمال الحسيني أبو فرحة حيث عرف الحب بأنه :” رقة تتخلل القلب، تنحو بالمحب نحو إسعاد المحبوب، والتعايش معه”(2).
وأيضا ما ذكرته الباحثة رنا أحمد أبو حبيب في تعريف المحبة بأنها :” الشعور الفطري المعروف الذي يجده المرء في قلبه، فيحتل المحب في قلب حبيبه مكانة طيبة ، ترقى بارتقاء المحبة ، أولها التعلق وأعلاها الخلة”(3).
وقد امتازت شرعة الإسلام عن الأديان المحرفة والفلسفات المعاصرة أيما امتياز، حيث إن المطلع على أقوال وأفعال وتوجيهات أصحاب تلك الأديان والفلسفات المحرفة حيالها، يتبين له ذلك الفرق الكبير بينها وبين الإسلام من حيث التأصيل لهذه الصفة، ومتانة أسسها، والمنهج القويم في بنائها، والحفاظ عليها، والحث على إشاعة أثرها في المجتمعات.
ومن خلال الاطلاع والبحث، تبين أن للمحبة جملة من المصادر التي يستمد منها المسلمون المفهوم الواضح، والقيمة البينة للمحبة، وهي :
المصدر الأول: الدين
يستمد المسلمون المحبة من الدين من خلال ثلاثة مصادر ، وهي : القرآن الكريم ، والسنة النبوية، وإجماع سلف الأمة وتفصيلها الآتي:
الأول: القرآن الكريم
إن الناظر في كتاب الله يرى الكثير من الآيات التي تدل على المحبة ،والتي قاربت الثمانين موضعا، وتدل تلك المواضع على إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، ووجوب محبة العباد لربهم، ووجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ووجوب محبة المؤمنين بعضهم بعضا.
ومن الأدلة على إثبات صفة المحبة فيما ورد في المحسنين:
قوله تعالى :” اَ۬لذِينَ يُنفِقُونَ فِے اِ۬لسَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَٰظِمِينَ اَ۬لْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ اِ۬لنَّاسِۖ وَاللَّهُ يُحِبُّ اُ۬لْمُحْسِنِينَۖ ( آل عمران :134)، وفي الآية تصريح على محبة الله تعالى للمحسنين.
وقوله تعالى عن المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم :” قُلِ اِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اَ۬للَّهَ فَاتَّبِعُونِے يُحْبِبْكُمُ اُ۬للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ (آل عمران :31) ، وهنا يتضح محبة الله سبحانه وتعالى لمن اتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الآيات الدالة على محبة الله.
ومن الأدلة على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم:
قوله تعالى :” قُلِ اِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ اِ۪قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اَ۬للَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِے سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّيٰ يَاتِيَ اَ۬للَّهُ بِأَمْرِهِۦۖ ( التوبة :24) .
ومن الأدلة على إثبات محبة المؤمنين بعضهم:
قوله تعالى:”وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْۖ لَوَ اَنفَقْتَ مَا فِے اِ۬لَارْضِ جَمِيعاٗ مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمُۥٓۖ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ “(الأنفال : 64)،والتأليف بين القلوب يلزم منه المحبة.
وقوله تعالى:”وَالْمُومِنُونَ وَالْمُومِنَٰتُ بَعْضُهُمُۥٓ أَوْلِيَآءُ بَعْضٖۖ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَيُوتُونَ اَ۬لزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اَ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۖ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اُ۬للَّهُۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ (التوبة:72)، والولاية بين المؤمنين تكون بالمحبة.
الثاني: السنة النبوية
تزخر السنة النبوية بأحاديث كثيرة تتحدث عن مفهوم المحبة ، وقد شملت تلك المواضع جوانب المحبة ، فهي تشمل محبة الله عباده المؤمنين على الوجه الذي يليق به ومنها مارواه أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فقالَ: إنِّي أُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، قالَ: فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في السَّماءِ فيَقولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّماءِ، قالَ ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ، وإذا أبْغَضَ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فيَقولُ: إنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضْهُ، قالَ فيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في أهْلِ السَّماءِ إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضُوهُ، قالَ: فيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ له البَغْضاءُ في الأرْضِ(أخرجه مسلم في صحيحه)، وفي الحديث إشارة إلى أن المحبة من الله يبتدؤها، وابتداء الله سبحانه وتعالى للمحبة إنما يعلي من شأنها،ويظهر مدى وجوب إثباتها له سبحانه وعدم نفيها عنه.
وتشمل محبة المؤمنين بعضهم لبعض ومنها مارواه أبو حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه ” ، وهذه المحبة هي محبة الإيمان ، التي تربط بين قلوب المؤمنين بعضهم ببعض.
الثالث: إجماع سلف الأمة
يعتبر إجماع سلف الأمة أحد المصادر التي يستقي منها المسلمون مسائلهم في المحبة ، وخصوصا أن سلف الأمة كانت المحبة تتمثل في حياتهم وتصرفاتهم، وما ذاك إلا امتثالا لما تعلموه من كلام الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ففهم السلف للنص الشرعي يعتبر حجة بدليل القرآن والسنة وأقوال العلماء ، وقد قال تعالى موضحا جزاء من يخالف سبيل المؤمنين ، ويخرج عنه – إما برأي شاذ ، أو هوى متبع، أو طريقة جديدة على غير هدى من الله- : “وَمَنْ يُّشَاقِقِ اِ۬لرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اُ۬لْهُد۪يٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اِ۬لْمُومِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلّ۪يٰ وَنُصْلِهِۦ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراًۖ ( النساء:114)(4).
المصدر الثاني: العقل
يعد العقل هو المصدر الثاني للمحبة في الإسلام بعد الدين، ولعلي هنا أركز على نوعين من المحبة لهما شأن كبير مع العقل ، هما محبة الله لعباده،ومحبة العباد لله ، وكيف يعد الإسلام العقل مصدرا لهما.
ذكر ابن القيم الجوزية أن كل صفة في القرآن الكريم قد دل السمع الصحيح والعقل الصريح على إثباتها لله عز وجل ، وبذلك يكون قد تواطأ عليها دليل السمع ودليل العقل معا، وبين أنه لا يمكن أن يعارض بثبوتها دليل صحيح، سواء كان هذا الدليل عقليا أو سمعيا، وفي حال خروج دليل معارض، فإن كان هذا المعارض من قبيل الأدلة السمعية فإنه لا يعدو كونه من أمرين:
الأول : إما أن يكون الدليل السمعي المعارض من قبيل الكذب المفترى أصلا.
الثاني: أو يكون من قبيل الفهم الخاطئ من المعارض.
وإن كان الدليل المعارض الذي خرج من قبيل الأدلة العقلية ، فإنه لا يعدو كونه من قبيل الشبه الوهمية الخيالية التي لا دليل عقلي برهاني عليها، وإيراده رحمه الله للعقل وأنه يثبت صفات الله سبحانه وتعالى ، إشارة إلى أن أهل الإسلام لم يغفلوا جانب العقل بجانب الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ، إذ يوردون تلك الأدلة العقلية إلى جانب إيرادهم الأدلة الأخرى بيانا منهم على الاهتمام بهذا الجانب.
ومن نفى من صفات الله سبحانه وتعالى شيئا ، فإنه عقلا ينفي كمال الرب سبحانه وتعالى ، وقد أشار ابن القيم إلى هذا المعنى، حيث أشار إلى أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه العزيز إثبات الصفات لنفسه في مواطن كثيرة، وبين أن ما وصف به نفسه سبحانه وتعالى هو الكمال الذي لا ينبغي لسواه، فمن جحد شيئا من تلك الصفات فهو جاحد لكمال الله سبحانه وتعالى ، فالواجب أنه يمدح بكل صفة وصف بها نفسه، ومجد بها نفسه، وأثنى بها على نفسه، وحمد بها نفسه، فذكرها سبحانه وتعالى على وجه التعليم والمدح له، والربط العقلي هنا هو أن نفي صفة من صفات الله هو نفي لكماله سبحانه وتعالى ، حيث إن الصفة التي أثبتها الله لنفسه مقترنة بذكره لكماله سبحانه وتعالى،ويتجلى ذلك في قوله تعالى :” لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَےْءٞۖ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْبَصِيرُۖ “( الشورى:9)، وصفة محبته سبحانه وتعالى هي إحدى الصفات التي يجري عليها هذا الكلام(5).
المصدر الثالث: الفطرة
ذكر ابن تيمية رحمه الله أن في الفطرة قوة موجبة لحب الله ، والذل له وإخلاص الدين له ، فكل حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد، فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل، ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد، فما في النفوس من قوة المحبة له إذا شعرت به، يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض، وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح ومحبة العلم وغير ذلك ، وإذا كان كذلك وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والذل له وإخلاص الدين له وأن فيها قوة الشعور به لزم قطعا وجود المحبة فيها والذل بالفعل لوجود المقتضى الموجب إذا سلم عن المعارض، والمحبة مشروطة بالعلم ، فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه، والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج ، بل هو جبلي فطري ، وأيضا فإذا كانت المحبة فكرية- وهي مشروطة بالشعور- لزم أن يكون الشعور أيضا فطريا ، والمحبة له أيضا فطرية، لأنها لو لم تكن فطرية لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء ، وهذا ممتنع.
ولهذا أشار ابن تيمية رحمه إلى أن قلوب بني آدم مفطورة على محبة وإرادة ما يعبدونه ويتألهونه ، كما أن فيهم محبة وإرادة ماينكحونه ويطعمونه،وهذا الأمر فيه صلاح لنفوسهم، وقوام لقلوبهم، وبهذه المحبة التي صرفوها لله سبحانه وتعالى تصلح حياتهم ويدوم شملهم، ثم أشار إلى لطيفة من لطائفه رحمه الله وهي أن حاجة الناس إلى التأله تعتبر أعظم وأشد من حاجتهم إلى الغذاء فإنه لا يفسد معه إلا الجسد فقط، ولا شك أن فساد النفس أعظم من فساد الجسد ، لأن النفس إذا فسدت ضلت وهامت في الأرض حيرانة تبحث لها عن مفسر لوجودها ووجود الكائنات أجمع، حتى وإن كانت أجسامها صحيحة قوية ، فإن تلك الأجساد لا تفيد مع فساد النفس.
وتأكيدا لهذا ، فقد توعد الله عز وجل في كتابه العزيز من يقدم شيئا أو أحدا -مهما كان – على محبته وطاعته سبحانه وتعالى ، وكذلك على محبة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته،ولعظم الأمر فإنه لم يقف عند حد الوعيد فقط ، بل إن الله سبحانه وتعالى حكم عليهم بالفسق والخروج عن الصراط المستقيم، فقال تعالى: ” قُلِ اِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ اِ۪قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اَ۬للَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِے سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّيٰ يَاتِيَ اَ۬للَّهُ بِأَمْرِهِۦۖ وَاللَّهُ لَا يَهْدِے اِ۬لْقَوْمَ اَ۬لْفَٰسِقِينَۖ (التوبة :24)(6).
المصدر الرابع: العرف
قال ابن تيمية رحمه الله :” وإذا كانت المحبة والإرادة أصل كل عمل وحركة – وأعظمها في الحق محبة الله وإرادته بعبادته وحده لا شريك له ، وأعظمها في الباطل أن يتخذ الناس من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ويجعلون له عدلا وشريكا- علم أن المحبة والإرادة أصل كل دين – سواء كان دينا صالحا أو دينا فاسدا- فإن الدين هو من الأعمال الباطنة والظاهرة، والمحبة والإرادة أصل ذلك كله ، والدين هو الطاعة والعبادة والخلق ، فهو الطاعة الدائمة اللازمة التي صارت عادة وخلقا ، بخلاف الطاعة مرة واحدة ، ولهذا فسر الدين بالعادة والخلق ، ويفسر الخلق بالدين أيضا كما في قوله تعالى : “وَإِنَّكَ لَعَلَيٰ خُلُقٍ عَظِيمٖۖ (القلم:4)(7) .
وختاما، تتبوأ المحبة مكانة عالية في دين الإسلام ، وهذه المكانة استمدتها من كونها تتعلق بأعظم الأمور التي ينبني عليها الدين ، فأول هذه الأمور العظام هو أنها تتعلق بالله سبحانه وتعالى، فقد أثبتها الله لنفسه، فهي من صفاته سبحانه وتعالى، وكذلك أثبت سبحانه وتعالى أنه يحب عباده المؤمنين، وأمر عباده المؤمنين بأن يحبوه سبحانه وتعالى محبة تليق به، وربط محبتهم له بالعمل والعبادة له سبحانه، وليس مجرد الأقوال دون الأفعال ، كما أمرهم بمحبة رسوله صلى الله عليه وسلم محبة فوق محبة النفس، ويندرج تحتها اتباعه صلى الله عليه وسلم وتصديقه فيما أخبر به عن ربه سبحانه وتعالى ، كما أن المحبة تتبوأ تلك المكانة أيضا لأن الله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم قد بين في سنته أن المحبة بين العباد بعضهم بعضا واجبة ، وأنها مرتبطة بالإيمان ، بل هي أكبر علاماته ودلالاته.
* خريج القرويين، كلية أصول الدين بتطوان
ــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1): محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، تأليف عبد الله بن صالح الخضيري، عبد اللطيف بن محمد الحسن ، مجلة البيان ، الرياض ، الطبعة الأولى ، 2006، (الصفحة : 10-11).
(2): مفهوم المحبة في الإسلام وتطبيقاته مقارنة بالأديان والفلسفاتالمعاصرة(دراسة نقدية)، تأليف الدكتور صالح بن محمد بن إبراهيم اليحيى، إصدارات شبكة الألوكة وهو بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه في تخصص الثقافة الإسلامية.
(3): حقيقة المحبة في العقيدة الإسلامية ،رنا أحمد محمد أبو حبيب، ماجستير في العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة ، كلية أصول الدين ، الجامعة الإسلامية، غزة ، 2011، ص :4.
(4):مفهوم المحبة في الإسلام وتطبيقاته مقارنة بالأديان والفلسفات المعاصرة(مرجع سابق).
(5): نفس المصدر السابق.
(6): نفس المصدر السابق.
(7): قاعدة في المحبة ، ابن تيمية، إصدارات عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان ، الطبعة الأولى 2005.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=19602