18 أكتوبر 2025 / 08:57

المجلس الوزاري في المغرب: مقام تتنزل فيه القرارات كما تتنزل البركات

محمد خياري

ليس الحكم المغربي مستورداً من وراء البحار، بل هو نبتٌ من تربة الوطن، يزاوج بين الواقعية والرمزية، بين الدستور والبركة، بين القانون والطقس، في انسجام بديع لا يُدركه إلا من تذوق طعم الحكمة، وعاش التدرج كفنٍّ في التدبير.

إنَّ هذا التمازج الفريد هو ما يُعطي للتدبير العمومي في المغرب طابعه الخاص، حيث لا تتعارض حداثة المؤسسات مع أصالة الشرعية، بل تتكاملان لتشكيل نظام سياسي عميق الجذور وواسع الأفق.

إنَّ فهم الحكم المغربي يتطلب تجاوز القراءات السطحية التي تختزله في هياكل إدارية بحتة، والانغماس في لُبّ دلالاته الرمزية والروحية والتاريخية.

في القصر الملكي، حيث الزليج الفاسي يروي حكاية الغرب الإسلامي والأندلس، والجبص المنقوش يهمس بأسرار الحضارة، والخشب المنحوت يوشوش للزمن عن عراقة المغرب، ينعقد المجلس الوزاري برئاسة جلالة الملك محمد السادس. هذا المجلس لا يُعَدُّ مجرد اجتماع إداري يُراجع فيه جدول أعمال، بل هو مقام سيادي تتنزل فيه القرارات كما تتنزل البركات، وتُستحضر فيه روح الأمة كما يُستحضر النبض في القلب. إنه فضاء مقدس للقرار، تُستعاد فيه اللحمة بين الأمة ورمز وحدتها، ويُمارس فيه الملك صلاحياته الدستورية بكل ما تحمله من حمولة تاريخية ورمزية.

تعكس قاعة انعقاد المجلس الوزاري هذه الثنائية المتميزة بين الرسمية والرمزية. في القاعة الملكية، حيث الضوء يتسلل من نوافذ مزخرفة وينعكس على الرخام، تنعقد لحظة القرار. هنا لا تُدار الأمور بمنطق البيروقراطية الجافة، بل بمنطق الرمزية العميقة، حيث كل جلوس له دلالة، وكل نظرة تحمل رسالة، وكل حركة تُعيد إنتاج الشرعية وتُرسّخها. هذه الرمزية ليست ترفاً سياسياً، بل هي جوهر الشرعية التاريخية التي يستمد منها النظام قوته وثباته. إنها لغة تتحدث إلى الوجدان الشعبي وتُؤكد على استمرارية العهد.

خلف المشهد، يبرز حضور دار المخزن بتركيبته المتكاملة التي تُمثل الأوجه الثلاثة للدولة: الحداثة، والأصالة، والقوة. يقف ثلاثة رجال يُجسدون هذه الأبعاد:

• رجل بلباس مدني عصري

• رجل بلباس مخزني تقليدي

• رجل بلباس عسكري

الملك، في لباسه العصري، يتصدر المجلس أمام كرسي العرش، الذي لا يُستخدم إلا في اللحظات السيادية الكبرى. هذا الكرسي ليس مجرد أثاث، بل هو رمز للبيعة، للشرعية التاريخية المتوارثة، وللوحدة الوطنية الجامعة. خلفه تُنصب الراية المغربية، حمراء بلون التضحية والفداء، تتوسطها نجمة خضراء ترمز إلى أركان الإسلام الخمسة، وإلى توازن الروح والجسد في الحكم، وتُجسد الانتماء الحضاري والروحي للمملكة.

على يمين الملك، يجلس ولي العهد، في إشارة بليغة إلى استمرارية الدولة والملكية، حيث يُورثه والده، الحكمة قبل السلطة، والتجربة قبل المهام الرسمية. وعلى يساره يجلس مستشاروه، كأنهم أركان تحمل كلُّ منها سرّاً من أسرار التدبير، يُمثلون النخبة التي تُقدم المشورة المستنيرة بعيداً عن صخب السياسة الحزبية. وأمامه يُنصب مكتب ملكي، يُجسد الطابع الإداري الرسمي للاجتماع، ويُذكر بأن السيادة لا تُمارس إلا عبر التنظيم والقانون.

يحضر رئيس الحكومة كعضو، لا كقائد للمجلس، وإلى جانبه وزراؤه، كلٌّ في مقامه، في مشهد يُوحي بأنهم كمن يُمتحن في حضرة السلطان. هذا الترتيب يُعيد التأكيد على مركزية المؤسسة الملكية كأعلى سلطة تنفيذية وتشريعية وروحية. قد يسأل الملك أحدهم سؤالاً لا يُجاب عليه بالأرقام والبيانات التقنية فحسب، بل بالبصيرة والرؤية الاستراتيجية: “هل قرأت نبض الأمة؟ هل سمعت أنين الجهات؟ هل فهمت أن الحكم ليس تقنية، بل ضمير حيّ؟”

هنا، على من يسأل ألا يجيب كتقني فحسب، بل كشاهد على لحظة استراتيجية، وعليه أن يكون مُلِمّاً بالرمزية، بالتاريخ، وبالنبض الشعبي، مُقدماً رؤية تتجاوز الإدارة اليومية إلى استشراف المستقبل. إنَّ هذا التفاعل يُؤكد على أنَّ التدبير العمومي في المغرب يُلزم المسؤول السياسي بالجمع بين الكفاءة التقنية والإحساس بالمسؤولية الوطنية والاجتماعية.

ينعقد المجلس الوزاري في لحظات مفصلية، بعد أحداث وطنية كبرى، أو قبيل إطلاق مشاريع استراتيجية ضخمة، وكأن الملك يُجدد العهد مع شعبه، ويُعيد ضبط البوصلة الوطنية. هو ليس اجتماعاً روتينياً، بل محطة استراتيجية تُحدد فيها الأولويات الكبرى للبلاد وتُوجه فيها السياسات العامة.

أما المجال الديني، فمُستثنى من التداول في المجلس الوزاري، لا تهميشاً له، بل احتراماً لمكانته السامية، لأنه يُدار من خلال إمارة المؤمنين، كولاية روحية لا تُناقش في سياق تداولي، بل تُحترم وتُفعل من خلال مؤسساتها الخاصة. هذا الفصل بين التداول السياسي للمشاريع العامة والولاية الروحية يُعزز مكانة الملك كقائد ديني للجميع، ويُجنب المجال الروحي الخوض في الصراعات السياسية.

يجد المجلس الوزاري إطاره التنظيمي في الدستور، حيث ينص الفصل 48 على أن الملك يترأس المجلس الوزاري، ويمكن لرئيس الحكومة أن يترأسه بتفويض ملكي، وفق جدول أعمال محدد. هذا التفويض يُبرز العلاقة الدستورية بين المؤسستين، ويُؤكد على السلطة التقديرية للملك.

أما الفصل 49، فيُحدد القضايا التي تُعرض على المجلس بصفة إلزامية، وهي قضايا ذات أهمية قصوى تُرسم بها ملامح السيادة والتوجه الاستراتيجي للدولة، وتشمل:

• التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة.

• مشاريع مراجعة الدستور.

• مشاريع القوانين التنظيمية.

• مراسيم التعيين في الوظائف العليا التي يُحددها القانون.

• إعلان حالة الحصار، وإشهار الحرب.

• المشاريع التي تهم استمرارية الدولة والأمة.

هنا، في المجلس الوزاري، يُصاغ القرار كما يُصاغ الشعر، وتُمارس السيادة كما تُمارس الطقوس، ويُستحضر المغرب في أبهى تجلياته: دولة، وروح، وشرعية، ومقام. ففي المغرب، الحكم ليس مجرد ممارسة إدارية تقنية، بل طقس جماعي يحمل في طياته روح الأمة، وذاكرة التاريخ، ونداء المستقبل.

بهدوءٍ ورُقي، وباحترامٍ عميقٍ للتراث وبصيرةٍ مفتوحةٍ للمستقبل، تستمر هذه الممارسة السيادية. أعين المواطنين ترفرف بين هذه اللحظات الهادئة وتلك الإجراءات الحاسمة، وتطمح إلى دولةٍ تكون في الوقت نفسه دولةً وروحاً، شرعيةً ومقاماً، وحدودها منطلقة إلى آفاقٍ تتسع لكرامة الإنسان وتحقيق العدل، مُؤكدةً أنَّ المغرب يملك نموذجاً فريداً للتدبير يجمع بين الأصالة والمعاصرة. إنَّ المجلس الوزاري هو التعبير الأسمى عن هذا النموذج، حيث يلتقي القديم بالجديد، والرمز بالقانون، ليُشكلوا معاً جوهر الشرعية المغربية.