3 أكتوبر 2025 / 08:08

العلاقة الخاصة بين “المخزن” والشعب في المغرب

محمد خياري

ليس المخزن المغربي مجرد جهاز إداري أو أمني، بل كيان رمزي يتجاوز منطق الدولة الحديثة. فهو تجسيد لسلطة متجذّرة في التاريخ، مغذّاة بالرمزية الدينية، ومصانة بالحكمة السلطانية. السلطة فيه لا تُمارَس بمنطق القوة المجردة، بل بمنطق الهيبة، التي لا تُبنى بالبروتوكول، بل تتأسس كبنية نفسية وسياسية عميقة.

المخزن لا يُحاور ليُفاوض، ولا يُصغي ليُذعن، بل يُصغي ليُعيد تشكيل المشهد ضمن منطق خاص به. حين يشتد الضغط الشعبي، لا يستجيب المخزن بالانكسار، بل بالاحتواء. وهذا الاحتواء ليس تجاهلًا، بل تفكيك للتوتر، وإعادة ترتيب للمطالب دون إعلان، ودون إقرار صريح بوجود أزمة.

في لحظات التوتر، قد يُطلق المخزن مشاريع تنموية، أو يُعيد ترتيب بعض الوجوه، أو يُعلن إصلاحات استراتيجية. لكنه يفعل ذلك من موقع السيادة، لا من موقع التنازل. تُصاغ هذه المبادرات بلغة الهيبة: “مبادرة ملكية”، “مشروع وطني”، “إصلاح استراتيجي”—لا كمجرد رد فعل على ضغط شعبي.

المرونة التي يُظهرها المخزن ليست تنازلًا، بل قدرة على احتواء المطالب دون أن يفقد ذاته. فإعادة صياغة السياسات، تعديل القوانين، وإطلاق الحوارات الوطنية، كلها أدوات تُستخدم لتفكيك الاحتجاج، لا للاستجابة له. المخزن يُحسن الإصغاء دون أن يُظهر التأثر، ويُدير الأزمات دون أن يُعلن عنها. هذا التماهي بين الإصغاء والسيادة هو ما يُميّزه عن غيره.

في المقابل، يواجه هذا الكيان الرمزي شعبًا متنوعًا في مطالبه، متقلبًا في مزاجه، لكنه قادر على فرض نفسه في لحظات الغضب. حين يشعر بالإهانة أو التهميش، يُعبّر عن غضبه بصور رمزية وجسدية: احتجاجات، مسيرات، شعارات. غير أن هذه التعبيرات لا تُرغم المخزن على التنازل، بل تدفعه إلى إعادة ترتيب أدواته، وتكييف خطابه، دون أن يُفرّط في هيبته.

هنا تتجلى العلاقة المعقدة بين المخزن والشعب: علاقة شدّ وجذب، تقوم على التوازن بين الهيبة والاحتواء، بين الغضب الشعبي وردّ السلطة. المخزن لا يُكسر، بل يُعيد تشكيل نفسه، والشعب لا يُهزم، بل يُعاد توجيهه ضمن سردية جديدة.

حين يُجبر المخزن على إعادة ترتيب المشهد، لا يُعلن ذلك كاستجابة، بل يُصوغه كإصلاحٍ استراتيجي أو كمبادرة ملكية. هذا ليس خداعًا، بل فنٌّ من فنون الحكم، يُستخدم للحفاظ على صورة السيد المتحكم، حتى وهو يُعيد ترتيب أوراقه. هكذا تُستعاد الهيبة، ويُعاد تشكيل العلاقة بين السلطة والمطالبة.

الهيبة تُصان عبر اللغة، والرمزية، وإعادة تشكيل السردية. لا يُقال إن المخزن استجاب، بل يُقال إنه بادر، أطلق، وجّه. هذه اللغة تُعيد ترتيب المشهد دون أن تُفقد المخزن هيبته، وتُبقيه في موقع الفاعل لا المفعول به.

وفي زمن الدولة الحديثة، حيث تُرفع شعارات الديمقراطية، والشفافية، وحقوق الإنسان، يبدو منطق المخزن وكأنه ينتمي إلى زمنٍ آخر. لكنه في الحقيقة يُعيد إنتاج نفسه ضمن هذه الشعارات دون أن يفقد جوهره. يشارك في الانتخابات، يُنظم الحوارات، يُطلق المبادرات، لكنه يحتفظ بحق التوجيه، والتأطير، والتدخل عند الحاجة.

هذا التوازن بين الحداثة والسلطنة هو ما يُميز المخزن المغربي عن باقي الأنظمة في العالم العربي. إنه لا ينكر الحداثة، لكنه لا يذوب فيها. يحتفظ بحق التقدير، وحق التدخل، وحق إعادة تشكيل المشهد السياسي متى رأى ذلك ضروريًا، محافظًا على جوهره الرمزي، وهيبته التاريخية، وسرديته