عماد فوزي شعيبي. مفكر سوري
انحياز القفز إلى الاستنتاج، والذي غالبًا ما يتم اختصاره إلى (JTC)، ويشار إليه أيضًا باسم الارتباك الحاصل بين الاستدلال والملاحظة، هو مصطلح نفسي يشير إلى عقبة في التواصل بين البشر معرفيًّا؛ حيث “يقوم المرء بإطلاق حكم أو يقرر شيئًا ما دون الحصول على جميع الحقائق المتصل به؛ وصولاً إلى استنتاجات غير مبررة”.
بعبارة أخرى،؛”هو الفشل في التمييز بين ما لاحظته مباشرة وما استنتجته أو افترضته فقط”. ولأنه استنتاج يتضمن اتخاذ قرارات دون وجود معلومات كافية للتأكد من صحته، فإن هذا يمكن أن يؤدي إلى قرارات سيئة أو متهورة غالبًا ما تسبب ضررًا ما أكثر من نفعه.
هناك ثلاثة أنواع فرعية معترف بها بشكل شائع وهي كما يلي:
* القفز إلى قراءة الأفكار: حيث يكون لدى المرء شعورٌ بإمكانية الوصول إلى معرفةٍ خاصة بنوايا أو أفكار الآخرين، قبل أن يقولوها ودون أن يشرحوها. وفي هذا ضرب من الإسقاط الذاتي؛ أي إسقاط ما في رأس المرء على العالم وعلى الآخرين. وذلك بعيداً من الحدس الذي يسم إمكانية المعرفة دون مقدمات أحياناً.
* وهم التنبؤ بالمستقبل: هنالك أشخاص لديهم قدرات حدسية يستطيعون فيها التنبؤ بالمستقبل إلى حد ما . لكن أصحاب هذا الإنحياز يكون لديهم مجرد توقعات بشأن كيفية سير الأمور قبل وقوعها بطريقة ونتائج ، لا ترقى إلى مستوى الواقع فعلياً؛ لأنه قد يحكمها التفكير الرغبوي أو الميل إلى التفاؤل أو الميل إلى التشاؤم. وهنا قد يتنبأ الشخص بنتيجة سلبية أو إيجابية؛ قبل أن يكون لديه أي دليل يشير إلى ذلك. ويقع في ذلك الكثير من الأشخاص الذين يتحدثون عن وقائع مستقبلية، سواء من الناس العاديين أو من المحللين السياسيين، أو حتى رجال الدولة أنفسهم. وفي هذا نوع من التسرع، الذي يتم فيه أسقاط الذات على الموضوع.
* التصنيف – يحدث التصنيف عندما يُفرط شخص ما في تعميم خصائص الآخرين. على سبيل المثال، قد يستخدم مصطلحًا غير مناسب لوصف شخص أو حدث معقد. وذلك استناداً إلى تصنيف يضع البشر أو الوقائع فيه بشكل معمم.
وفي كل الأحوال يمكن اعتبار ما سبق بمثابة تشويه في عملية المعرفة وسياقها (الاستعراف: cognitive).
صحيح أن أغلب الوظائف والأعمال تتطلب، بسبب حالة عدم اليقين المستقبلية، التصرف على أساس التخمين المدروس، ولكن تزداد احتمالية ارتكاب الأخطاء عندما يجهل الناس أنهم استبقوا الاستنتاجات، و عندما يعتقدون أن افتراضاتهم هي في الواقع معرفة.
والأخيرة هي الأهم، إذا أن التخمين والتصرف على أساسه، يفسح في المجال أمام فعلٍ يتضمن احتمالية الخطأ والصواب، ولكن الإصرار على أن الافتراضات هي الواقع الموجود بكل تفاصيله أو انحياز خطير.
نُلاحظ ذلك في الحوارات التي تجري بين البشر وخاصة في القضايا الحساسة، حيث يتم مقاطعة البشر لبعضهم البعض دون ترك الفرصة لكل طرف أن يعبر عن وجهة نظره ويشرحها بالتفاصيل. وفي أبسط الأحوال يمكن ملاحظة ذلك في تعبير المقاطعة الذي غالبا ما يتكرر:”فهمت عليك لا داعي للشرح”أو تعبير”أعرف ما سوف تقول”، أو “فهمت دون شرح” أو “هذا الشخص خائن/مخادع/كاذب” ولا داعي لأن يكمل كلامه لأنني كاشفه… ويترافق ذلك، مع امتلاء داخلي مفرط بالثقة بالنفس وفيض من الفرح الطفلي! والواقع أنه لا يكون يقرأ، إلا ما فيه رأسه هو، وليس ما في رأس الآخر.
ولا تنبع خطورة هذا الانحياز فقط في القضايا اليومية أو حتى السياسية، إنما في التشخيص الطبي أيضاً؛ حيث يتسرع بعض الأطباء، في تشخيص بعض الأمراض، قبل استكمال أسئلتهم والفحص السريري المدقق.
ويُخطئ الأطباء في التشخيص، غالبًا نتيجةً لاستنتاجاتهم المُتسرعة. وفي هذا يقول جيروم جروبمان، مؤلف كتاب ” كيف يفكر الأطباء”، إن “معظم التشخيصات الخاطئة ترجع إلى مفاهيم خاطئة لدى الأطباء عن مرضاهم، وليس إلى أخطاء تقنية كاختبارات المعمل الخاطئة”. بافتراض أن المريض سيُفصّل جميع الأعراض ذات الصلة (حتى تلك التي تسبب لهم إحراجًا)، أو افتراض أن المريض يكذب في عرض معاناته لأنه لا يريد العلاج او يخاف منه، أو افتراض أن المريض يُعاني من توهم المرض، وبالتالي لا يأخذون شكواه على محمل الجد.
أمثلة تحليلية موسعة:
أمثلة سياسية وتاريخية:
1. اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند (1914): فبعد الحادثة مباشرة، قفزت الإمبراطورية النمساوية المجرية إلى استنتاج بأن صربيا وراء العملية، مما عجّل باندلاع الحرب العالمية الأولى.
2.انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان (2021):
استندت إدارة بايدن إلى تقديرات سريعة بأن حكومة كابول ستصمد لأشهر بعد الانسحاب، لكن طالبان سيطرت في أيام، ما كشف سوء الفهم التنبؤي. أي أن الحسابات كانت رغبوية ومتسرعة، ولا تستند إلى أي اعتبارات مرجعية يمكن الوثوق بها
أمثلة نفسية واجتماعية:
1. في العلاقات الزوجية:
أحد الشريكين يقول للآخر “أعرف أنك لم تعد تحبني” بناءً على تأخر في الرد أو نبرة صوت – وهو تخمين مشحون ذاتيًا دون دلائل واقعية.
2. وسائل التواصل الاجتماعي:
تعليق بسيط يتم تأويله كإهانة شخصية، فيقع المتلقي في إسقاط داخلي مبالغ فيه، ويتهم الآخر بنوايا غير موجودة.
3. الغيرة المرضية:
تتجلى في توقع الخيانة والبناء على هذا التوقع ، دون أدلة، بل والذهاب إلى نسج قصص ذهنية تنتمي إلى صنف “قراءة الأفكار” و”التنبؤ السلبي”، أو حتى الخيال المفرط.
4. التمييز العنصري:
ويكون ذلك بتصنيف الأفراد بناءً على لون البشرة أو الانتماء الديني مباشرة، المحكوم عليه سلفا ً، دون معرفة الفرد وفي هذا شكل مباشر من القفز إلى استنتاجات نمطية.
أمثلة فلسفية وفكرية:
1. فرنسيس بيكون – الأوهام الأربعة (Idols of the Mind):
أشار إلى ميل العقل البشري لتكوين استنتاجات من تجارب محدودة — ما يشبه JTC.
2. ديكارت و”الشك المنهجي”:
أراد أن يفضح هذه القفزات الذهنية من أجل الوصول إلى يقين، فاعتبر أن الكثير من “المعرفة” ليست سوى افتراضات غير مبررة.
3. كارل بوبر – التفنيد بدل الإثبات: اعتبر كارل بوبر أن الإنسان لا يجب أن يقفز إلى إثباتات بل يجب أن يضع فرضيات قابلة للدحض؛ وأي يقين دون تفنيد هو عرضة للخطأ. ذلك أن كان الحقيقة هي تلك التي تتأتى من الدحض.
4. دانيال كانيمان (Thinking, Fast and Slow):
شرح كاينمان كيف يعمل “النظام الأول” (السريع) في التفكير، فيرتكب الإنسان أخطاء مثل القفز إلى نتائج، بسبب اختصارات ذهنية فورية.
تحليل كمومي (كوانتي) لانحياز القفز إلى الاستنتاج :
1. الإدراك كفعل لا كمُعطى (Observation as Creation)
في الفيزياء الكمية، لا توجد حقيقة “خارجية” مستقلة عن المراقب، بل تُخلق الحقيقة بفعل الرصد/القياس – كما في تجربة الشق المزدوج (Double-slit).
وهذا يتقاطع تمامًا مع انحياز القفز إلى الاستنتاج، الذي يقوم فيه العقل بخلق استنتاج لم يُرصد بعد، أي أن القرار أو الحكم يسبق الحدث. وفي هذا مخالفة صريحة لمبدأ المراقبة في تجربة الشقين!
كذلك كما في ميكانيكا الكم، حيث الجسيم يوجد في حالة تراكب (superposition)، فإن القفز إلى الاستنتاج هو حسم احتمالي قبل انحلال التراكب، أي قبل انهيار تابع الموجة الكمومي، أي قبل أن يقول الواقع كلمته. بمعنى آخر فإن القفز إلى الاستنتاج يحدث انهيارًا مفتعلًا في تابع الموجة بالإكراه وليس بالمراقبة وهذا مخالف لأهم وأبسط قواعد الفيزياء الكمية. فالاستعجال المعرفي هنا، شبيه بإجبار الجسيم على أن يسلك سلوكًا معينًا قبل التفاعل معه. وقبل مراقبة ذلك الجسيم.
2. وهم الحتمية مقابل لايقينية الكم (Determinism vs. Indeterminacy)
ترى الفيزياء الكلاسيكية أن الأحداث تتبع سلسلة حتمية. أما في فيزياء الكمّ، فـالاحتمال واللا يقين هو أساس الوجود.
لكن في القفز إلى الاستنتاج JTC، يُمارس المرء وهم الحتمية عبر افتراض أن النتيجة قد حُسمت مسبقًا، وأنه يعرف ما سيحدث أو ما ينويه الآخر. وهذا مخالف لقواعد الفيزياء الكمية وبالتالي لقواعد الوجود. فالقافز إلى الاستنتاج يريد “تثبيت الحقيقة” في حالة واحدة، بينما الواقع لا يزال في تراكب كمّي مفتوح.
3. الإسقاط الذاتي كاضطراب في تكميم المعلومات (Quantum Decoherence)
في الفيزياء الكمومية، ال (Decoherence) هو فقدان الترابط بين الحالات الممكنة بسبب تدخل البيئة أو المراقب، مما يجعل النظام “يبدو كلاسيكياً”.
كذلك في JTC: الذاتية المفرطة، أو الإسقاط، يُدمّر احتمالية التفكير المفتوح، ويقود إلى واقع (ذاتي) غير موجود وبالتالي مغلق. فالشخص الذي “يعرف ما ستقوله” قبل أن تتكلم، شبيه بجهاز قياس يعطّل تراكب الاحتمالات قبل أن تتكوّن.
وهذا يقتل المعرفة مثلما تقتل الملاحظة المتسرعة احتمالات سلوك الجسيم.
⸻
4. إغلاق الممكن بدلاً من سكنه (Killing the Possible)
أنت في فكرك إذا كنت تقفز إلى الإستنتاج ، يُمارس العقل التالي:
– يُغلق على الاحتمالات والممكن باكرًا دون حق بالمعنى الفيزيائي للمراقبة.
– يسكن الاستنتاج وكأنه حدث.
– يقرأ النوايا وكأنها وقائع.
❖ وهذا يشبه فعل الانهيار collapse القسري غير الصحيح لتابع الموجة:
هنا يحدث الانهيار عبر الأنا المفرطة لا عبر المنطق(منطق الطبيعة)
Collapse by ego, not by logic.
5. الزمن المتداخل والنتائج المرتدة بالتغذية الخلفية الراجعة (Retrocausality & Feedback)
في تفسير الفيزياء الكمومية الذي يشير إلى السببية المرتدة، يمكن لحالة مستقبلية أن تؤثر على الماضي. كذلك في JTC، يتوهم الفرد أنه يقوم ب”استباق” النتيجة، ثم يُعيد تشكيل الأحداث الماضية لتخدم استنتاجه.
هذا ما يحدث مثلاً في الغيرة المرضية أو في التشخيص الطبي الخاطئ:
– النتيجة المُتخيلة تتحكم في تفسير الوقائع الماضية!
وهو ما يمثل تحويراً للزمن المعرفي، يخلق رواية داخلية مغلقة تشبه وهميًّا وبما يخالف الفيزياء الكمية، بناءً عكسيًا لزمن المراقب الكمومي.
الخلاصة:
انحياز القفز إلى الاستنتاج ليس مجرد خلل نفسي، بل هو تشويه في “بنية الاحتمال” التي يفترض العقل أن يسكنها قبل إصدار الحكم.
ووفقًا لمنهجنا الذي يربط الوعي بالفيزياء الكمية، فإن هذا الانحياز:
• يحسم ما يجب أن يبقى مفتوحًا،
• ويُنجز ما يجب أن يُراقب،
• ويُسقط الذات حيث يجب أن يكون هناك انتظار لفعل المراقبة.
ونقول بكلمة : تمامًا كما في العالم الكمومي:
“كل استنتاج مُبكر هو تعطيل للاحتمال، وقتل للمعرفة. بل انه قتل للوجود نفسه”