محمد زاوي
تعتبر المعرفة مدخلا موثوقا للعرفان، وذلك لأنها لا تكتفي بالوقوف عند حدود العلم، بل تفتح أبوابا للبحث والكشف عند هذه الحدود نفسِها.. تفتح عند حدود العلم بابا للفلسفة، وعند حدود الفلسفة بابا للعرفان.. تغذي العرفان وتتغذى منه، تفتح له بابا ليضيف إليها من خبرته وحكمته وكشفه..
يخوض سالك هذا الطريق نوعين من المعرفة، مُتعمّقا في فلسفة عقله، مستوحيا من حقيقة وجدانه. وإذا كنا في حاجة إلى سلوك يغذي المعرفة، فإننا في حاجة إلى هذا النوع من التصوف، حيث الغوص العاقل في غياهب الوجدان، وحيث البحث الملهَم عرفانيا في إمكانات العقل.
ليس هذا النموذج بغريب عن التجربة الإسلامية، بل لها فيه مساهمة كتلك التي قام بها صدر الدين الشيرازي (ملّا صدرا)، الفيلسوف والسالك المعروف، الذي جمع بين نقده لمقولات الفلسفة اليونانية ومنطقها من جهة، وتأملاته العرفانية من جهة ثانية.. فقادته هذه التركيبة إلى فهم خاص للوجود، مفاده العام أن: الكون في حركة دائمة ومستمر، لا كأعراض بل كجوهر أيضا..
وهنا قول الشيرازي بـ”حركة الجوهر الكوني وترابط عناصره”، عكس قول أرسطو بـ”ثباته وانفصال عناصره”.. (راجع كتاب “نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي” لهادي علوي).
هذه حكمة مغمورة في التجربة الإسلامية، منعها واقعنا التاريخي من البروز والانتشار كما برزت حِكم البوذية والكونفوشيوسية والنازية في شرق آسيا؛ لكنها بقيت صامدة وشاهدة على تقدم قديم في النظر، وعلى تبلور جدلي محكوم بخطاب عصره، قبل أن يتأسس المنطق الجدلي وقبل أن توضع قواعده الأربع: “الترابط، التغير، التحول، التناقض”.. إنها نقد قديم، وما قبل نظري، لمنطق أرسطو القائل بـ”ثبات الجواهر”..
وإذا كان فلاسفة وفقهاء ومتصوفة ومتكلمون مسلمون قد قلّدوا أرسطو في هذا المنطق، فإن صدر الدين الشيرازي نحا منحى معاكسا ونبه إلى مثاليته كما نبه إليها التجريبيون والجدليون الأوروبيون.. مع اختلاف السياق التاريخي والأساس النظري والفلسفي بين شرق وغرب.
كان صدر الدين الشيرازي مؤمنا بوحدة الوجود وحركته الدائمة نحو كماله، فكان التفكير في هذا الكون -بالنسبة إليه- لا يقف عند حدود التفكير بالعمل، بل هو في حاجة إلى التفكر بالتأمل والذوق العرفاني، ما دام الإنسان/ المفكر جزءا من “الوحدة الجوهرية الكونية”.. فكلما ارتقى فيها بالعرفان إلا عرف المزيد من أسرارها، وفتح عقلها لمعرفة حقائقها.. فما هو إلا استعداد في العقل، وقوده العرفان الذي يلقي بالإنسان في خضم هذه الحركة الكونية الهائلة..
هذه “ترسانة” فلسفية ونظرية ما قبل تجريبية وما قبل جدلية (بالمعنى الحديث للجدل)، إلا أنها كفلسفة قابلة للاستصحاب في عصرنا الحالي من جهتين: من جهة ما تكتنزه من بذور “المنطق الجدلي”، ومن جهة الحاجة إلى طرحها الفلسفي والعرفاني عند حدود ما توصلنا إليه من نتائج علمية.
السؤال المطروح اليوم، والذي يجب طرحه بجدية، هو: ما سبب غياب مثل هذه المرجعيات العرفانية في نموذجنا الصوفي؟ هناك عدة مسيرات لعل أبرزها: القيود التي يفرضها التصوف السلفي، السمة الدراويشية لأغلب الطرق الصوفية، تحدّد الكلام الصوفي بمنطق سياسي بعينه، السياق الما قبل نظري العمل الصوفي في البلاد السنية..
هي جملة عوامل إذن، تعود في نظرنا إلى عامل واحد هو: حاجتنا التاريخي للتصوف السلفي وإن مارس الذوق والفناء.. ذوق وفناء في بناء سلفي، لا يفارقه العرفان إلا ليعود إليه.. عرفان خاص، مقيد تاريخيا، نتاج بديهي لتشكيلة اقتصادية-اجتماعية محددة..
لماذا الحديث عن هذا الأفق المعرفي العرفان في حين لا تفرض الشروط التاريخية الحالية إلا “عرفانا سلفيا”؟! إنه في حقيقته أفق، وليس مطلبا حاليا.. الوعي به يوسّع مخيال “الفاعل السياسي”، ليجعل منه سياسة كلية أو جزئية كلما أصبحت الحاجة التاريخية ماسة لذلك.
ومهما كانت وتيرة الحركة التاريخية العامة، فإن المعرفة هي أفقها النهائي، بعد أن تكون قد عمّمت العلم الحديث ووقفت عند حدودها.. آنئذ تُطلَب معرفة من جنس هذا العلم، فتظهر رموز وتضمر أخرى، وتنفتح عوالم وتنغلق أخرى..
وعكس ما هو شائع عند كثيرين، فإن الإنسان يتقدم في الدين كلما تقدم في العلم، وينفض عن دينه غبار الإيديولوجيات الدينية كلما عرف حقيقة الظواهر الملموسة معرفة ملموسة!