9 سبتمبر 2025 / 10:17

الطريق لا تضيع: إشراقات من التيه البودشيشي

محمد خياري

في لحظات التيه الروحي العميق يقف فقراء الطريقة القادرية البودشيشية في حيرة البحث وتساؤلات قلوبهم الملتهبة: من هو شيخنا؟ هذا السؤال ليس مجرد استفسار عن اسم أو صورة، بل هو ارتجاف في الأعماق وانهيار خرائط السلوك والمقامات التي ألفوها. فالمشيخة في عرف أهل الطريقة ليست منصبًا يتنازع عليه، بل سر يُوهب ونور يُكشف وولاية تشهد لها السماوات قبل الأرض.

حين غاب اليقين الواضح، تسللت شكوك وترقبات إلى نفوس الفقراء، فتذكروا عهد الشيخ حمزة حيث وجدوا حسن الاستقبال ووحدة الرؤية وشيخًا يتمتع بالرسوخ والزهد وبكاريزما خارقة وذكاءً لامعًا ومبادرة في احتضان الداخلين إلى حضرة الطريق بحسب حالة كل واحد. لكن ذلك النور الذي كان يضيء بدأ يخبو وتبددت هالات الاعتداد مع بروز أصوات وأطراف تدعو إلى سيدي معاذ وسيدي منير في مشهد بدا لأول وهلة كذبول لهالة سيدي حمزة، وقليلاً سيدي جمال. وهي سنة الله في أهل الطريق لا مفر منها.

في التصوف لا تُعتبر هذه اللحظات أزمة بل امتحانًا إلهيًا، كما ورد عن الإمام عبد القادر الجيلاني: “إذا رأيت المريد قد اضطرب قلبه عند غياب شيخه فاعلم أن الله يربيه بنفسه.” فالمشيخة ليست ميراثًا يُتناقل، وإنما مقام يُثبت واصطفاء لا يخيب، كما قال الشيخ أحمد زروق: “الشيخ من شهدت له أحواله قبل أقواله وأفاضت أنواره قبل أن يُشار إليه”.

ما يحدث اليوم هو غربلة روحية حقيقية يُميز فيها الخالصون من المرتبطين بالأشخاص وتُختبر فيها دواخل القلوب في ثباتها على الطريق لا على رموزه. فالمشيخة كما قال ابن عطاء الله السكندري “سر من أسرار الله لا يُعطى إلا لمن صفا قلبه وصدق توجهه وخلصت نيته”.

ولنا في سيدي حمزة منهج ومثال، إذ مر بمرحلة حصار ومراقبة حين خرج عبد السلام ياسين من رحم الطريقة. كانت الطريقة حينها خافتة، وشيخها صابرًا وثابتًا ناثرًا بذوره في الخفاء حتى أشرق الفجر مع بداية الألفين وانتشر زهو الطريقة وأقبل الناس إليها من كل فجٍّ عميق.

قال الشيخ محمد الحراق: “الولي لا يُعرف إلا بعد أن يُبتلى ولا يُقبل إلا بعد أن يُغربل ولا يُظهره الله إلا حين تشتد الحاجة إليه.” فالمشيخة ليست إلا إشراقًا وشهادةً يفرضها حال المريد لا مجرد مقالات وأعلام.

قد تطول السنين، لكن في عرف أهل الله، الزمن ليس عائقًا بل كاشفًا، كما قال الشيخ أبو مدين الغوث: “الوقت سيف من لم يقطعه قطعَه ومن لم يفهمه أضاعَه.” والوقت هنا زمن كشف وتجلي وتحقيق لا زمن مجرد ساعات ويوميات.

في وسط هذه الأحداث سيظهر الشيخ الحق، ليس لأن الناس اختاروه، بل لأن الله كشفه، كما يشرق الفجر بعد عتمة الليل وكما ينمو الربيع بعد طول الشتاء. وسيراه الفقراء لا من خلال الشعارات بل بسكون القلب عند لقائه وبالنور الفائق من حضرته وبصدق حاله قبل مقاله.

الطريق لا تضيع وإن ضاع المؤقت منها، والحق محفوظ، والمشيخة محفوظة، والسر محفوظ. والله لا يترك عباده في تيه إلا ليُرشدهم، ولا يطيل الغياب إلا ليطهّرهم، ولا يخفي الشيخ إلا ليظهر لهم الحقيقة. الصبر مفتاح الفرج، والله لا يخلف وعده، والشيخ الحق سيظهر حين يحين الوقت وحين تتهيّأ القلوب وحين يُصفّى الطريق من كل دخيل.

كما قال الإمام الجنيد: “طريقنا هذا علم في بدايته وفناء في نهايته وظهور لمن صدق فيه”.