كتبه:د. يوسف الحزيمري
عندما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة كان أول ما بدأ به هو بناء المسجد النبوي ليكون نواة المجتمع المسلم، وكانت للمسجد أدوار متعددة، لم يكن مقتصرا على أداء العبادة فقط، بل كان مؤسسة تجمع كل مؤسسات الدولة بالمفهوم الحديث، ومن الأدوار التي كان يضطلع بها الرعاية الاجتماعية للوافدين الجدد من الفقراء والمساكين من المهاجرين، وحتى من الأنصار، أو من دخل في الإسلام من القبائل المجاورة، حيث كان للهجرة أثر في تكوين النسيج الاجتماعي الجديد بالمدينة المنورة، يقول ابن تيمية رحمه الله: “فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية، كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله أو بغير أهله؛ لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم، وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على من ينزل عنده منهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئا بعد شيء؛ فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه. والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه وتارة بسراياه فيسلم خلق تارة ظاهرا وباطنا وتارة ظاهرا فقط، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء والأهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه، يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد”[1]
و”الصفة” التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي ، في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه”[2]
إن القارئ لكتب السيرة يعلم أن الأنصار قدموا كل مايستطيعون لإخوانهم المهاجرين ومن ذلك مؤاخاتهم لهم في الأهل والمال، ولقد استمر عطاؤهم طيلة حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، حتى جاء الخير وعم في أواخرها، وشهد الله سبحانه بكرمهم وإيثارهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، ولقد أسهم القادرون من المهاجرين من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمان بن عوف وبذلوا، وقدموا الشيء الكثير، مما هو مذكور في كتب السيرة، بل قد أسهم كل قادر حتى ولو كان الشيء الذي يقدمه قليلا”[3]
لقد كان لمبدأ المؤاخاة الذي سنّه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أثر في تقوية المجتمع المسلم في عهد النبوة، فساهم في حل مشكلة الفقر والتقليل من الفوارق الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء، “وكان النبي يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويقص عليهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته وذكر الله والتطلع إلى الآخرة ويشجعهم على احتقار الدنيا وعدم تمني الحصول على متاعهما وكان إذا أتته الصدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية إرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها”[4]، وبهذه الكفاءة التنظيمية للصفة وأهلها، كانوا يتأهلون فيغادرونها ويأتي قوم آخرون، بمعنى أن هذا النموذج كان تنمويا، يقول ابن تيمية:”ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له. ويجيء ناس بعد ناس فكانوا تارة يقلون وتارة يكثرون”[5].
وبعد عهد النبوة ما من مسجد في الغالب إلا ونجده يحتذي بنموذج “أهل الصفة”، هذا النموذج الذي احتذى به المسلمون عبر العصور، وذلك لكونه مبني على أواصر العقيدة، الآمرة بالأخوة الإيمانية والإنسانية، والتضامن والتآزر والمواساة، وشكل مظهرا من أهم مظاهر الحضارة الإسلامية.
ما أحوجنا اليوم إلى استلهام هذا النموذج”أهل الصفة”، وما قام عليه من أواصر الأخوة والتضامن، خصوصا مع هذه الجائحة التي أظهرت الفقر الخفي لأصحابه، وعطلت العاملين المياومين الذين كان لهم قوت يومهم، وأن لا نقتصر على مبدأ الإطعام وإن كان أساسيا، بل ننتقل إلى مستوى التأهيل عبر دعم المشاريع التنموية للفئات الهشة في المجتمع.
ــــــــــــــــــ
الهوامش:
مجموع الفتاوى (11/ 38- 41) ، وانظر: أهل الصفة وأحوالهم، لابن تيمية، تحقيق،: مجدي فتحي السيد.
مجموع الفتاوى، نفسه.
وسائل معالجة الفقر في العهد النبوي (أهل الصفة أنموذجا)، ماجد بن صالح بن مشعان الموقد، ص: 4
المجتمع المدني في عهد النبوة، أكرم ضياء العمري، ص: 106
مجموع الفتاوى (11/ 41)
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14278