محمد التهامي الحراق
أحسن الأستاذ جعفر الكنسوسي صنعا وصنيعا، كعادته في السبق للمبادرات الناجعة والنافعة، لمّا دعا الأستاذ أحمد التوفيق وزير الأوقاف والسؤوت الإسلامية، للمحاضرة في موضوع نفيس وآني وهام، اتخذ عنوان: “الدور المنوط بالزوايا في خطة تسديد التبليغ”. وهو الموضوع الذي يطرح من جهة تجديد دور الزوايا ورهانات استثمار ميراثها العلمي والروحي والأخلاقي والحضاري والجمالي في السياق الراهن، مثلما يطرح تعيينا أشكال تدخلها المفيد والفعال والخلاق في تقوية وتفعيل خطة تسديد التبليغ التي تنبناها المجلس العلمي الأعلى قبل سنتين تقريبا. و ربما ترجع “المبادرة الجعفرية” التي احتضنتها “جمعية مراكش” يوم السبت 17 ماي 2025، بنادي العدل بالمدينة الحمراء، إلى حضور الأستاذ الكنسوسي في اللقاء التواصلي الناجح الذي نظمه المجلس العلمي الأعلى مع خبراء التنمية في مختلف القطاعات الرسمية والمنتخبة والمدنية يوم 26 فبراير 2025. وهو ما ذكّر به المحاضر وهو يؤطّر محاضرته، ويستحضر صلته الخاصة بمراكش ومكانتها في سيرته وذاكرته.
وبتتبع أطوار مداخلة الأستاذ التوفيق التي امتدّت على مدى أكثر من ساعة ، نسجل غنى ما ورد فيها من إضاءات فلسفية وروحانية وتاريخية وتوجيهية؛ مما يتعذر تفصيله هنا، لكثافته من جهة، وغنى طرره واستطراداته من جهة ثانية. الأمر الذي يجعلنا نكتفي في هذا المقام بتسجيل ملاحظات ومحاورات منتقاة مع أبرز ما استثارنا في محاضرته الغنية.
1- قدم الأستاذ التوفيق إضاءات مفاهيمية مفيدة تتعلق بمفاهيم التصوف والزوايا وخطة تسديد التبليغ؛ مؤكدا أن مدار التصوف حول التزكية بما هي تحرير للإنسان من خلال التوحيد، وأن روح تعاريفه هي محاسبة النفس، التي اعتنت بها المدارس الروحية التي شكلتها الزوايا في تاريخ المغرب بعد القرن السادس للهجرة؛ كما ذكّر الأستاذ المحاضر بأسس خطة تسديد التبليغ في القرآن الكريم والسنة النبوية، وبمقاصدها المتمحورة حول تقليص الفجوة بين كمال الدين والممارسة التدينية، وكذا إعادة تثمير الإيمان في العمل الصالح طلبا لتحقيق الحياة الطيبة المنشودة؛ مؤكدا أن العلماء اهتموا في تعريف الإيمان بالقول والفعل وأغضوا عن مفهوم الحال في تعريف الإيمان.
2- في إطار هذا التأطير المفاهيمي، وقف المحاضر
عند إضاءة معرفية فلسفية تناول فيها إشكال فهم قوله تعالى: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [سورة الشمس:7-10]. وهو عينه الوارد في قوله تعالى: “وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ” [سورة البلد: 10]؛ والمتعلق بمسألة الجبر والاختيار في التقوى والفجور؛ والذي انتهى فيه الأستاذ التوفيق بعد استحضار أقوال المفسرين والمتكلمين في الأمر إلى ضرورة مغادرة المنطق الثنائي المنسجن بزمان التوالي في فهمها، ومن ثم النظر إلى الإلهام الوارد في سورة الشمس بمعنى القابلية والاستعداد للفعل، وهو ما يعني أن ينسب الفعل الاختياري للإنسان في دائرة المشيئة الإلهية؛ مما يعد أمرا محيرا للمنطق الثنائي الذي لا يستوعب الجمع بين الجبر والاختيار في نفس الآن. وقد راح يستدل الأستاذ التوفيق لهذا الأفق الثالث بنماذج من التطورات العلمية المتسارعة في العوالم الفيزيائية والتقنية المعاصرة. وللإشارة فإن هذا التحرر من التناقض باستيعابه خارج العقل الثنائي حيث الجمع بين الأضداد، من أهم ما فتح أفقه القول العرفاني، كما شرحنا ذلك بنوع من التفصيل في كتابنا الأخير “ثابتا في حيرتي: في جدلية الوجد والنقد عند أهل العرفان” (2025).
3- إن واحداً من أهم الإشارات في محاضرة الأستاذ أحمد التوفيق، وهو يقدم عرضا تاريخيا مضيئا لتشكل التصوف في المغرب، ومراحل نشوئه وتطوره، تأكيده أن التصوف المغربي لا يخلو من الحقائق العرفانية، وأن تصنيف الصوفية إلى متسننين وعرفانيين كان بغاية طلب الارتياح الذي يضمنه هذا التصنيف في بيئة تطغى عليها الحاجة الاجتماعية للتصوف، فيما لم تغب الحقائق عن تصوف أهل المغرب، كما سيظهر ذلك ببهاء في بعض نصوص المشربين الشاذلي والتيجاني، والتي تضاهي في عمقها وجمالها حسب المحاضر كبار أقوال العرفانيين الأندلسيين والمشارقة والفارسيين. غير أنها نصوص “حذاق القراء”، فيما تظل كتب المناقب والتراجم والنصوص التربوية أقرب إلى عوام الناس في بيئة شكل فيها التصوف والزوايا عامل إدماج رئيس للأهالي الأمازيغ، ولا سيما بالبوادي، في الثقافة الروحية الإسلامية. الأمر الذي ميز التصوف في الغرب الإسلامي، وأقدره على الخروج من تناقض الإشراق والأخلاق في المشرق، وهو ما سميناه في كتابنا المذكور بقدرة التصوف المغربي على “التوليف بين السلوك والعرفان”
4- من أهم الإشارات الواردة في مداخلة الأستاذ التوفيق تلك التي صحح فيها بعض الدعاوى التي تتهم التصوف بالشرك وهو الذي يؤكد على التزكية بما هي تحرير الإنسان بالتوحيد، أو تلك التي دفع فيها بالأدلة التاريخية اتهام الصوفية بدعم الاستعمار، واضعا هذه التهم في سياق التنافس الإيديولوجي الذي طبع مغرب الاستقلال وما بعده، وكذا بتأثر بعض أعلام حركتنا الوطنية بصراعات السلفية في المشرق. وتعتبر هذه التصحيحات من أغنىًما تفتحه المحاضرة أمام الباحثين لتجديد كتاب تاريخ الحركة الإصلاحية في المغرب بما يحررها من هذه الأحكام ويعيد اكتشاف دور الصوفية في إطلاقها وبلورتها، بعيدا عن تعميم أحكام عليها انطلاق من حالات شاذة لم تكن قط تمثل روح التوجه الصوفي عبر تاريخ المغرب. ولم يفت الأستاذ التوفيق وهو يصحح ويفتح آفاق إعادة كتابة هذه الفترة من تاريخ المغرب، أن ينبه إلى ضرورة أن يصبح التصوف اليوم شأن العموم، منطلقا في ذلك من التأمل في عدد من “قواعد التصوف” التي وضعها الإمام زورق ، ومؤكدا على ضرورة التركيز على البعد الأخلاقي والتربية بالحال والقدوة، باعتبار ذلك هو المدخل الرئيس لإسهام التصوف والزوايا في خطة تسديد التبليغ.
5- في ضوء ما سبق فتح الأستاذ التوفيق الباب أمام إسهام الزوايا في تقليص الهوة بين الدين والتدين، ومن ثم الإسهام في تقديم نموذج للتخليق بالخال والقدوة، مع التركيز على التصوف بما هو محاسبة للنفس، والإعراض عن الإغراق في الحديث عن البركة والسر، والذهاب العملي نحو أفق البذل لتخليص النفس من صنم أنانيتها، باستثمار الميراث الروحي والأخلاقي الغني للصلاح في بلدنا الأمين. وإننا إذ نثمن هذه الدعوة، نؤكد أن هذا الميراث يحمل في ذخيرته من النصوص والقيم والأخلاق والنماذج والسبل التربوية والجمالية، ما لو تم حسن استثماره وتوظيفه في السياق الراهن، لأسهم بتفرد ونجاعة في تخصيب خطة تسديد التبليغ وتعضيدها بما يتلاءم ومقاصدها من جهة، ويفتحها على آفاق في التثمير لتذهب بها نحو بلوغ الحياة الطيبة وتقديم نموذج روحاني كوني لها يتواءم ورهانات الهنا والآن.