الزاوية الوزانية بين المطرقة والسندان … قراءة في أزمة القيادة وابتعاد الكفاءات

15 نوفمبر 2025

محمد التهامي القادري

لم تكن الزاوية الوزانية عبر التاريخ مجرد فضاء روحي أو مؤسسة دينية عابرة في خضم الزوايا المغربية الكثيرة، بل كانت نموذجا فريدا لتكامل الروح والفكر والعمل، وركنا من أركان الهوية الروحية للمغرب.

فمنذ تأسيسها على يد القطب مولاي عبد الله الشريف، أصبحت الزاوية الوزانية بيتا للعلم والسلوك الروحي والتربية الإيمانية، ومركزا للإشعاع الروحي والعلمي والاجتماعي، احتضن العلماء والعابدين والبسطاء والأعيان، وربط بين القبائل المغربية بروابط المودة والوئام، وأسهم في بناء وعي ديني معتدل يتسم بالوسطية والاتزان. كانت الزاوية الوزانية، في عصورها الزاهية، تترجم مفهوم الولاية لا كنفوذ ولا سيطرة، بل كخدمة وتربية وإرشاد، فكان شرفها في رسالتها لا في نسبها وحده.

غير أن هذا المجد الرمزي الذي صنعته الأجيال بالعلم والورع، بدأ يتآكل مع مرور الزمن، إذ أصبحت الزاوية تعيش اليوم بين مطرقة التفكك الداخلي وسندان التهميش الخارجي، تتجاذبها قوى متناقضة تضعف حضورها وتُربك رسالتها، فتبدو كروح متعبة تُنَقِّب عن فجرها الضائع، وكطيف يسعى إلى ملامح ذاته الأولى.

إن المطرقة التي تهوي على الزاوية الوزانية من الداخل تتمثل في الانقسام الحاد الذي أصاب بنيتها الرمزية والتنظيمية، حيث فقدت المشيخة، -وهي عمودها الفقري اليوم-، معناها التربوي والروحي، وصارت في أحيان كثيرة موضوع تنازع لا موقع خدمة. تحولت المشيخة إلى منصب شكلي تحكمه منطلقات الانغلاق، بعد أن كانت مسؤولية علمية وقيمية، يُختار لها مَن جمع بين العلم والمعرفة والقدوة والحنكة. ومع غياب القيادة المؤهلة، انفرط العقد، واهتزت الثقة بين أبناء الزاوية، وتراجع الشعور بالانتماء إلى هذا الصرح التاريخي الذي كان يجمعهم على الكلمة الطيبة. كما أصيبت البنية القيمية الداخلية بالوهن، فحلّت ثقافة الإقصاء محل ثقافة التعاون، وبرزت مظاهر التباهي والتمييز التي لم يعرفها الشرفاء الوزانيون في أزمنة النقاء الأولى.

وغابت الحركة العلمية والفكرية التي كانت تميز الزاوية، فانطفأت مصابيح الدروس والندوات، وخفتت أصوات التربية الروحية الأصيلة، ليحل محلها احتفالات موسمية باهتة وبعيدة كل البعد عن رسالة الزاوية وهويتها، لا تسمن الفكر ولا تغذي الوجدان. ولم تعد الزاوية الأم قادرة على جمع فروعها وتنسيق جهودها، فانعزلت الزوايا الفرعية، وأصبح كل فرع يغني على ليلاه في غياب رؤية موحدة ومشروع جامع.

أما السندان الذي يضغط من الخارج فيتمثل في التهميش المؤسسي والثقافي الذي طال الزاوية الوزانية، رغم عمقها التاريخي ودورها الوطني والروحي.

فقد تراجع حضورها في أجندة المؤسسات الرسمية، وضعفت عناية وزارة الأوقاف والمجالس العلمية بها، وهو وضع مؤسف يعكس حجم الضعف الذي استبد بمن يتصدرون تدبير شؤون المشيخة، وعجزهم عن خوض معركة الترافع لاسترداد الحقوق إلى أهلها. وهكذا غُيِّبت الزاوية عن الفضاء الثقافي والإعلامي، فلا تكاد تُذكر في الندوات أو الدراسات الأكاديمية، رغم أنها تمثل صفحة مضيئة من تاريخ التربية الروحية المغربية.

كما فقدت ثقة جزء من المجتمع الذي لم يعد يرى فيها النموذج القيمي والتربوي الذي كان يحتذي به، بعدما خفت إشعاعها الإصلاحي وانكمشت أدوارها في المجال العام. إن هذا التهميش الخارجي، مقرونا بالوهن الداخلي، لا يقل خطرا عن الانقسام الذاتي، لأنه يسحب من الزاوية مشروعيتها في الوجدان الشعبي ويجعلها عرضة للنسيان والانكماش.

ورغم هذا الوضع المقلق، فإن الزاوية الوزانية لا تزال تمتلك من المقومات والطاقات ما يؤهلها للنهوض من جديد إذا توفرت الإرادة الصادقة والرؤية الواضحة. فالعائلة الوزانية، بما تختزنه من قامات علمية وأكاديمية رفيعة في شتى ميادين المعرفة والبحث والتربية والفكر، قادرة – لو أُتيح لها المناخ المناسب – على إعادة هيكلة مسارات الزاوية وإحياء إشعاعها التاريخي، ووضعها في مصاف المؤسسات الرائدة وجعلها قاطرة من قاطرات التنمية الروحية والثقافية والاجتماعية في المجتمع المغربي.

غير أن هذه الكفاءات النزيهة، التي آثرت السمو على الصراعات الصغيرة، تنأى بنفسها عن مستنقعات التدبير الملتبس والعلاقات الزبونية التي تحيط بالمشيخة الحالية، لأنها تدرك أن الإصلاح لا يتحقق إلا في بيئة يسودها الوضوح والصدق والاستحقاق.

ولو أنها وجدت أرضية سليمة ومناخا مؤسسيا مشجعا، لكانت السباقة إلى إطلاق مبادرات إصلاحية جادة لتقويم اعوجاج الوضع وإعادة الأمور إلى نصابها. فإصلاح الزاوية لا يكون بالخطابات ولا بالرمزية المجردة، بل بإعادة بناء فكرها وتنظيمها من الجذور. المطلوب اليوم هو أن تتحرر المشيخة من منطق الاستحقاق الضيق، وأن تُسند إلى من جمع بين العلم والتجربة والحكمة، وأن تُفعّل مؤسساتها التاريخية من نظارة ونقابة ورابطة وفق أسس شفافة واضحة.

كما ينبغي أن يُبعث في الزاوية فكرها التربوي الأصيل، عبر لقاءات علمية وروحية تُعيد إحياء رسالة السلوك الإيماني الذي قامت عليه، وأن تُفتح الأبواب أمام الشباب للمشاركة في مشاريع فكرية وثقافية تُعيد إليهم الإحساس بالانتماء إلى هذا التراث المجيد. وفي الآن ذاته، يتعين على الدولة أن تعيد النظر في علاقتها بهذه المؤسسة، وأن تُدرجها ضمن سياساتها الرامية إلى صون التراث الديني والرمزي الوطني، لأن الزاوية الوزانية ليست مجرد مؤسسة محلية، بل هي جزء من تاريخ الأمة المغربية ومخزونها الروحي العريق.

كما أن انفتاحها على المؤسسات الجامعية والثقافية يمكن أن يمنحها دفعة جديدة لتجديد خطابها وتفعيل حضورها في المجتمع. ومن شأن دعمها وتثمينها أن يُسهم في نشر قيم الاعتدال والتسامح التي تمثل صمام أمان في زمن التطرّف والتشظي القيمي.

إن الزاوية الوزانية اليوم مطالبة بأن تراجع ذاتها بجرأة ومسؤولية، وأن تتجاوز صراعات الأشخاص إلى خدمة الرسالة. فما كانت الزاوية يوما عنوانا للاحتكار أو المنفعة، بل كانت صلة خفية تجمع الفكر بالقلب، وجسرا بين المعرفة والوجدان، وتصل الإنسان بمصدر نوره الإلهي. فإذا أعاد أبناؤها اكتشاف هذا المعنى، وتعاونوا على تجديدها بعقل راشد وإيمان صادق، فإنها ستنهض من تحت الركام لتعود منارة إشعاع كما كانت، تحاور العصر دون أن تتخلى عن أصالتها، وتخدم الوطن وهي مخلصة لرسالتها.

المطرقة لا تكسر إلا بالعزيمة، والسندان لا يُتجاوز إلا بالتعاون، وبينهما لا بد أن تستعيد الزاوية الوزانية توازنها، لتظل رمزا للوحدة والصفاء، لا مسرحا للانقسام والنسيان، ودليلا على أن الروح المغربية لا تنطفئ ما دام في هذا الوطن من يحرس جوهر الكلمة الصادقة ويؤمن برسالتها ويصونها.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

توكل كرمان.. من جائزة نوبل إلى خطاب الفتنة

عمر العمري تقدم توكل كرمان نفسها، منذ حصولها على جائزة نوبل للسلام سنة 2011، بوصفها رمزا عالميا للحرية وحقوق الإنسان، إلا أن مسارها الإعلامي والسياسي اللاحق سرعان ما كشف عن تناقض صارخ بين الشعارات والممارسة. فبدل أن تكون صوتا للحوار والسلام، تحولت إلى منبر للتحريض والتجريح، مستخدمة المنصات الرقمية لنشر خطاب عدائي يستهدف المغرب ومؤسساته […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...