27 مايو 2025 / 01:09

الذكاء الاصطناعي أو الانتقال من عالم ينظمه القانون نحو عالم تنظمه الخوارزميات

يوسف سعود 

خبير مغربي في العالم الرقمي. يقيم في أمريكا 

من يصر على التعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة فقط، فقد فشل في فهمه كبنية تحتية فكرية جديدة، تنتج المعنى، وتحدد القيمة… تنتصر في المجال الإعلامي مثلا للصحافيين المنتجين للأفكار والتحليل و.. وتزيد من قيمتهم.
نعيش اليوم لحظة مفصلية، يتجاوز فيها التحول الرقمي مجرد تطور تقني إلى تحول بنيوي شامل يعيد صياغة علاقات الإنتاج، وأنماط العمل، وتوزيع السلطة الرمزية والمادية على السواء. فبينما امتد الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي على مدى قرون، فإن الانتقال الجاري نحو ما يمكن تسميته بمجتمع البيانات يحدث بسرعة غير مسبوقة، مستفيدًا من القفزات الهائلة في الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، والهندسة اللغوية التوليدية.
لم تعد أدوات الإنتاج الإعلامي والإبداعي تحتاج إلى مهارات تقنية معقدة كما كان الأمر في العقود السابقة. إذ يمكن اليوم توليد محتوى بصري عالي الجودة باستخدام نصوص مكتوبة فقط، دون الحاجة إلى التصوير أو الإضاءة أو المونتاج أو حتى فرق العمل. ما يحدث هو انتقال من الإنتاج باليد إلى الإنتاج بالعقل، ومن تقنيات التنفيذ إلى هندسة التوجيه، حيث تتوقف القيمة على من يملك القدرة على صياغة الأوامر الذكية وتحويلها إلى محتوى متكامل.
هذا التحول لا يقصي فقط الأدوات القديمة، بل يهدد بإعادة هيكلة المؤسسات التي لم تستطع اللحاق بهذا التطور. فوسائل الإعلام التي لا تملك القدرة على التكيف مع هذا الواقع الجديد، والتي لا تتوفر على مرونة معرفية وبنيوية كافية، ستجد نفسها خارج المعادلة. لم يعد كافيًا أن تنتج محتوى عالي الجودة، بل يجب أن يكون المحتوى ذكيًا، مخصصًا، قادرًا على التكيف مع السياقات والأنماط السلوكية للجمهور في الزمن الحقيقي.
في ذات السياق، تتغير أيضًا واجهات التفاعل بين الإنسان والتكنولوجيا. فالهاتف الذكي، الذي شكل لسنوات محور الحياة الرقمية، بات مهددًا بالاختفاء التدريجي. لم تعد الحاجة ملحة إلى جهاز مادي وسيط، بعد أن أصبح بالإمكان التفاعل مع نظم ذكاء اصطناعي شخصية تعتمد على الصوت، أو الرؤية، أو حتى الإشارات العصبية المباشرة. نحن أمام ولادة نظام بيئي جديد، لا مركزي، وغير مرئي، يعيد تعريف مفهوم الجهاز والوسيط، ويؤسس لحقبة ما بعد الشاشة.
أصبح من الضروري التوقف عن التعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة فقط، والبدء في فهمه كبنية تحتية فكرية جديدة، تنتج المعنى، وتحدد القيمة، وتعيد تعريف الإبداع. لم يعد الإبداع حكرًا على الفنان أو التقني، بل بات في متناول من يمتلك القدرة على إدراك كيفية تفكير النماذج، وكيفية تغذيتها، وتوجيهها، وتقييم مخرجاتها. وبالتالي، تظهر الحاجة إلى جيل جديد من المتخصصين، يجمع بين الفهم العميق للتقنيات، والقدرة على صياغة استراتيجيات تحولية، والوعي النقدي بأسئلة الأخلاق والمعرفة والسلطة.
ما نعيشه اليوم ليس مجرد مرحلة من مراحل التقدم التكنولوجي، بل هو تحول جذري في البنية المعرفية والثقافية للمجتمعات. وإذا كان التحول من المجتمع الزراعي إلى الصناعي قد غير شكل المدن، وأدوار الأفراد، وموقع العمل في الحياة اليومية، فإن التحول إلى مجتمع البيانات يغير أنماط الإدراك، ومعايير الحقيقة، وتعريف الهوية ذاتها. إنه انتقال من عالم تنظم فيه العلاقات بواسطة القوانين والمؤسسات، إلى عالم تنظم فيه بواسطة الخوارزميات والنماذج التنبؤية.
لهذا، فإن التحدي الأكبر لا يكمن في مواكبة هذه الثورة، بل في فهمها وتوجيهها، وامتلاك الوعي اللازم لإعادة هندسة موقع الإنسان داخلها. ما نحتاجه ليس فقط مهارات جديدة، بل أنماط تفكير جديدة قادرة على إعادة تعريف علاقتنا بالعالم.
المصدررابط صفحة الكاتب على فيسبوك: