ذ. محمد جناي
إن النفس البشرية المتميزة بأبعادها المختلفة وأعماقها المعقدة الغامضة، لا يمكن إشباعها بالوسائل والحاجات المادية وحدها، مهما غالى الإنسان في توجهه المادي، وحرص على تلبية مطالبها الحسية، وإشباع غرائزها الطبيعية، لأن المادة وحدها غير قادرة على ضمان تدبير حياة الإنسان، وبث الطمأنينة في أعماقه، وهي عاجزة عن ضمان تأسيس أو الحفاظ على أي قيم أخلاقية في حياته، من هنا كان الشعور بإشباع جانبها الروحي ضرورة تلح على الإنسان كلما طغى الجانب المادي، واختل التوازن داخله، وهذه الحاجة تتجلى واضحة حين ينغمس الإنسان في كثير من الأحداث والوقائع والأزمات التي لا يستطيع معرفة كنه أسبابها أو حل إشكالتها، فيلجأ بفطرته إلى الله سبحانه، ويطلب منه العون على مواجهتها، والمساعدة على تيسير أسباب معالجتها أو تجاوزها، يقول تعالى :{ وَإِذَا مَسَّ اَ۬لِانسَٰنَ اَ۬لضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوْ قَاعِداً اَوْ قَآئِماٗ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَيٰ ضُرّٖ مَّسَّهُۥۖ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ} (يونس12).
إنه أمر متغلغل في الفطرة، يتساوى فيه الناس مهما كانت اتجاهاتهم وميولاتهم، والالتجاء إلى الله تعالى كلما ضاقت السبل، واشتد الظلام، فعلاقة الإنسان بربه علاقة ذاتية متأصلة في نفسه، ولكل امرئ شعاع في قلبه يصله إلى خالقه، لأنه تعالى أوجد في طبيعة تكوين الإنسان استعدادا فطريا لمعرفته وتوحيده، فالاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري، فطرة أودعها الله الخالق في الكينونة الإنسانية ، وشهدت بها على نفسها ، فالتوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر ، وخالق البشر، منذ كينونتهم الأولى، وقد أمر الله عز وجل في كتابه الحكيم الناس كافة بالدعاء، واختص المؤمنين بهذا الأمر، مما يدل على أن أي إنسان مهما بلغت درجة إيمانه وتدينه واستقامته، لا يستغني عن الدعاء ، فهي بداية السير إلى الله ونهايته.
ولعل أكثر مايبحث عنه الإنسان العاقل في زمننا المعاصر، مهما كان تدينه أو توجهه، الطمأنينة والسلام مع نفسه ومع الآخرين، والإحساس الحقيقي بالحرية والكرامة، ونجزم أنه لن ينعم بذلك إلا إذا اكتشف ذاته أولا، ومرحلة اكتشاف الذات هي مرحلة خطيرة، لأنها ترسم مسار الإنسان في رحلته على الأرض ، وتتطلب منه أن يوقظ نفسه من غفلتها أو جحودها، بمعنى أن يتوقف لفترة قد تطول أو تقصر عن مجاراة العالم المختل، ويحاول إعادة التوازن إليه من خلال نفسه،وإيجاد واقع عملي يحقق له ما يصبو إليه، ويضمن له الاستقرار ، ولن يستطيع ذلك إلا إذا امتلك عقيدة صحيحة تفسر له ما حوله، وتفسر له مكان وجوده فيما حوله ووظيفة هذا الوجود.
وتمثل مرحلة البعثة النبوية، أزهى المراحل التي بلغت فيها البشرية قمة الارتقاء الإنساني، ممثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والنموذج للكمال والصلاح، ثم في أصحابه، رضي الله عنهم وأرضاهم، حيث كانت علاقاتهم بربهم علاقة متناغمة مع الكون ومع وظيفة وجودهم لقوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ اُ۬لْجِنَّ وَالِانسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِۖ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ يُّطْعِمُونِۖ * إِنَّ اَ۬للَّهَ هُوَ اَ۬لرَّزَّاقُ ذُو اُ۬لْقُوَّةِ اِ۬لْمَتِينُۖ }(الذاريات )،فالعبادة إذن جوهر الوجود الإنساني ، وهي تستلزم التوجه إلى الله تعالى بالطلب والدعاء.
فالدعاء هو العبادة الحقيقية ذاتها، لدلالته على إقبال العبد على الله عز وجل والإعراض عمن سواه، واقترانه بسائر العبادات والطاعات التي يتقرب بها العبد إلى خالقه تعالى بشكل لا يقبل الانفصال كالصلاة والصيام والحج من جهة ، وكل الأعمال المحتسبة لله عز وجل من جهة أخرى، لذا كان الاستمرار في الدعاء يشكل تأكيدا لتقرير حقيقة مهمةفي نفس الإنسان المسلم ، وهي فقره إلى الله وعدم استغنائه عنه في كل الأحوال يقول تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ أَنتُمُ اُ۬لْفُقَرَآءُ اِ۪لَي اَ۬للَّهِۖ وَاللَّهُ هُوَ اَ۬لْغَنِيُّ اُ۬لْحَمِيدُۖ } (فاطر 15) }، وتنمية الإحساس بالفقر إلى الله والحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه غايات تعبدية يستهدفها الذين بذاتها، ويلزم الإنسان اتباعها في كل عباداته.
من هنا كان الدعاء عبادة حية متحركة، رغم خضوعها لزمان ومكان معينين، ولأفعال خاصة وألفاظ محددة، إلا أن الإنسان ينطلق فيها حرا يتطلع لعبودية الله وحده لا شريك له ، يذوق حلاوة قربه، والتنعم بمعيته وطاعته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارسها في جميع حالاته،لأنها تترجم عمق الصلة بين العبد وبارئه، ويعكس حالة الافتقار المتأصلة في ذاته إلى الله سبحانه، مع إحساسه العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده، فكانت مصاحبة لكل عمل يقوم به ، من أبسط الأشياء إلى أعظمها التي غيرت وجه التاريخ، وأوجدت خير أمة أخرجت للناس ، وقد روى البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أنها قالت :” كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله كل أحيانا”.
من هنا كان اتباع سنة رسول الله، وتعلم الدعاء منه، مع الإيمان والوثوق بالإجابة ، بعد العمل على تهيئة الظروف والأخذ بالأسباب المادية ، عامل تيسير مهم يجب استثماره لتيسير حياة الإنسان، وجعلها مليئة بالرضى والطمأنينة والسلام والتقدم ، فعن عبد الله بن بسر ، رضي الله عنه ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ، فأخبرني بشيء أتشبت به ، قال :” لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله”.
والدعاء نوعان: دعاء المسألة، أي طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر أو توبة أو استغفار وغيرها، ودعاء التعبد ، أي سائر القربات من ذكر وتلاوة وصلاة ونسك ومختلف الطاعات، قال الإمام ابن القيم : ” والدعاء من أنفع الأدوية ، وهو عدو البلاء يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرقعه، أو يخفف إذا نزل، وهو سلاح المؤمن ، وله مع الدعاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أخف من البلاء فيقوى عليه البلاء ، فيصاب به العبد ولكن يخففه، وإن كان ضعيفا.
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه”.
والإنسان الذي وصل إلى مستوى تذوق لذة الإيمان وسما بالعبادات، لا يمكن أن يقصر أبدا في الدعاء ، ويدرك أن العبادات هي غاية الموجودات وسبب خلقها، لذا يعطيه أهمية قصوى ، كي ينعكس على حياته.
وللدعاء أهداف عديدة يمكن أن يصل إليها المؤمن ، منها حفظ النفس وتزكيتها، يقول تعالى: {اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِ۬للَّهِۖ أَلَا بِذِكْرِ اِ۬للَّهِ تَطْمَئِنُّ اُ۬لْقُلُوبُۖ }(الرعد 29)، فهناك أمراض تفتك بالبشرية ، وتعرض حضارتها للإنهيار، وتصيب أفرادها بالوهن، منها الإلحاد والتطرف والعبثية والعدمية ، لكن الإيمان يظل ينبض في أعماق الفطرة الإنسانية رغم بعدها عن الحق والعدل،وربما هذه الحقيقة ترقد في أعماق كل إنسان ، مهما كانت قناعاته أو توجهاته، وإن لم يعترف بها، لذا يلجأ إلى الله كلما تعبت نفسه، واشتاقت لفطرتها، وللتطهر من أردانها، وتكون البداية ضيقها من السيئات التي تنغمس فيها، وإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجوء إليه ودوام التضرع إليه والدعاء والتقرب إليه .
لهذا يأتي الدعاء لشحن الإنسان بدلالات القرب والمعية ، فإصلاح النفس وتزكيتها وتطهيرها بالدعاء من أجل الأهداف التي يسعى إليها الداعي ، لأنه يدرك أن أي خلل يصيبه، مهما كانت طبيعته، يكون مصدره من نفسه، ويكون ذلك تنبيها للرجوع إلى الله واكتشاف مصدر الداء والخطأ، وحين حلت الهزيمة بالمسلمين في أحد وقال بعض أصحابه:” كيف نهزم ونحن جند الله” ، جاء الجواب من الله تعالى آيات بينات لمن يسمع ويتعظ:{ اَوَلَمَّآ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٞ قَدَ اَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمُۥٓ أَنّ۪يٰ هَٰذَاۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ قَدِيرٞۖ } (آل عمران 165) .
وأختم هذا بقول للداعية ” عبد العزيز المقبل ” : من أهم ما يتميز به المسلم والمسلمة اللذان تعلق قلباهما بالله وطبقا في حياتهما شرعه، وامتثلا أمره ، تلك الراحة النفسية والاطمئنان القلبي ، فلا تراهما إلا مبتسمين حتى في أحلك الظروف وأقسى الحالات ، فهما يدركان أن ما أصابهما لم يكن ليخطأهما، وأن ما أخطأهما لم يكن ليصيبهما ، فلا يتحسران لفوت محبوب ، ولا يتجهمان لحلول مكروه، فربما كان وراء المحبوب مكروها، ووراء المكروه محبوبا {وَعَس۪يٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـٔاٗ وَهُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۖ وَعَس۪يٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـٔاٗ وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمْۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَۖ } (البقرة 214).
ــــــــــــــ
هوامش
(1) : كتاب الحياة الطيبة أو (قاموس السعادة )في الإسلام ، عبد المحسن بن علي المطلق، مكتبة التوبة الطبعة الأولى 2009، الرياض، المملكة العربية السعودية.
(2) : د. سعاد الناصر ، كتاب الأمة (الدعاء .. سبيل الحياة الطيبة) ، إصدارات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر ، الطبعة الأولى 2006.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=17476