الخلفية الفكرية لدعوة تحديد النسل عند نظرية “روبرت مالتوس ” اللإنسانية (الجزء الأول)

ذ محمد جناي
آراء ومواقف
ذ محمد جناي22 سبتمبر 2021آخر تحديث : الأربعاء 22 سبتمبر 2021 - 10:18 صباحًا
الخلفية الفكرية لدعوة تحديد النسل عند نظرية “روبرت مالتوس ” اللإنسانية (الجزء الأول)

ذ. محمد جناي
تعد الدعوة لتحديد النسل انبعاثا لدعوات مماثلة موغلة في القدم، تعود لما قبل الميلاد، ومن أبرزها مايطلق عليها “متواليات مالثوس ” وهي نظرة اللإنسانية لمشكلة الزيادة السكانية والتي تُجمع على إبقاء عدد الجنس البشري في حدودٍ معينة،وفيما يلي إطلالة مفصلة لتلك الدعوة .

أولا: الخلفية التاريخية
عاش روبرت مالتوس خلال الفترة الممتدة ما بين 1766- 1834،وقد شهدت هذه الفترة عدة تغيرات هامة في المجال الفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، أما عن المجال الفكري ، فقد عاصر ” روبرت مالتوس” تلك الفترة التي كانت ما تزال فيها بقايا متداعية من فكر المدرسة التجارية ( الميركانتيلية)، وهي المدرسة التي كانت ترى أن عماد الثرورة لأي شعب من الشعوب إنما يتمثل فيما يملكه من معادن نفيسة، وأنه لكي تزداد هذه الثروة ، فيلزم الميزان التجاري للدولة أن يحقق فائضا (أي أن تكون الصادرات أكبر من الواردات) ، وأن هذا الفائض يتعاظم كلما شجعت الدولة على الصناعات والأنشطة المشتغلة بالتصدير، حيث كان التجاريون يعتبرون أن الأعداد الكبيرة للسكان تمثل علامة قوة اقتصادية وعسكرية.

بالإضافة إلى البقايا الفكرية للمدرسة التجارية، كانت الثورة الفرنسية قد أحدثت ردود فعل قوية، مما دفع أهل العلم والمعرفة إلى مزيد من التأملات في مستقبل البشرية وفي النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان، حيث أعتقد بعض الفلاسفة والمفكرين، أنه لا توجد قوانين طبيعية تحد من قدرة الإنسان على تحسين ظروف معيشته وأنه في إمكان الإنسان أن يستخدم القوانين الطبيعية المكتشفة في تحسين إنتاجيته وصحة ومستوى رفاهيته.

أما في المجال الاقتصادي فقد عاصر مالتوس فترة تحول الاقتصاد من الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية، فقد تعاظم الدور الذي يقوم به الإنتاج السلعي (الذي يعتمد على التخصص وتقسيم العمل ، والإنتاج بغرض التبادل)، وحقق تراكم رأس المال توسعا ضخما في الصناعة، وتعاظم معه بشكل محسوس الاستخدام الموسع للتكنولوجيا في مجال الإنتاج، وكان من نتيجة ذلك أن تعددت المصانع المعتمدة على الآلات ، ونشأت المناطق الصناعية الكبرى .

وفي المجال الاجتماعي ، ترتب على تجربة التحول إلى المجتمع الرأسمالي الصناعي حدوث مشاكل خطيرة ، فمع نشأة المناطق الصناعية ، زادت الكثافة السكانية بشكل واضح في تلك المناطق، كما زاد عدد سكان المدن، فزاد التكدس البشري في الغرف وفي أبروشيات الكنائس والملاجئ وانتشرت الأمراض والرذائل الاجتماعية ، وزاد عدد العاطلين نتيجة للاستخدام الموسع للآلات التي حلت محل العمل الإنساني، وأصبح عدد كبير من الناس يعيش على المساعدات والصدقات التي توزعها الملاجئ والكنائس.

في خضم هذه الظروف وهذا الوضع التاريخي نشر روبرت مالاوي عددا من المؤلفات والبحوث وأهمها ” مقالة حول مبدأ السكان كما يؤثر في تحسين مستقبل المجتمع عام 1798″، وكل هذه الأعمال كانت تجسد وجهة نظر روبرت ماتوس في الصراع الفكري الحاد الذي نشب بينه وبين بعض الكتاب المعاصرين له ، مثل ” جودوين” و “كوندرسيه” وغيرهم ، وذلك في عدد من القضايا الاجتماعية الهامة، مثل مستقبل البشرية، وقضايا السكان وغيرها ، كان مالتوس يمثل وجهة نظر معارضة تماما لأفكار هؤلاء الكتاب حول هذه القضايا.

فقد كان من رأي جودوين وكوندرسيه ، أن مايعانيه الإنسان من آلام وفقر وحرمان إنما يرجع إلى الحكم الفاسد ، والقوانين الجائرة الفاسدة، والحكام الأشرار ورجال الأعمال الجشعين،وأما مالتوس ، فإنه على عكس هذين الفيلسوفين ، كان ذا نزعة تشاؤمية ، ويرى أنه ليس من المتوقع أن تتغير طبيعة البشر.

ثانيا: الجذور الفكرية والاجتماعية والسياسية لنظرية مالتوس
تجدر الإشارة أن القضايا الأساسية لنظرية مالتوس في السكان كان قد سبقه إليها مفكرون آخرون ، غير أنها لم تكتسب طابع الشهرة والترويج نظرا لعدم نضوج الظروف الاقتصادية والاجتماعية لهذا الرواج ، حيث إن ظروف البطالة ومشاكل الغذاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية لم تكن قد وصلت في العصر الذي كتب فيه هؤلاء الكتاب مؤافاتهم، إلى المدى الذي وصلت إليه في عصر مالتوس.

وفي ظل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية المعقدة ، خرج مالتوس بنظريته في السكان ليضع تبريرا لارتفاع أثمان الحاصلات الزراعية وسوء أحوال الطبقة العاملة ، ومنحازا في ذلك بشكل مباشر لصالح ملاك الأراضي الزراعية، وطبقا لمنهج تفكيره، يرى مالتوس أن الزيادة السكانية هي مجرد عملية بيولوجية بحثة ، لا علاقة لها بالنظم الاجتماعية السائدة، وبعبارة أدق ، لا توجد صلة بينها وبين تغير أو تطور الإنتاج وعلاقات الإنتاج السائدة في فترة تاريخية معينة.

إن التناقض بين قدرة السكان على التزايد وقدرة الأرض على إنتاج الغذاء يمثل في رأي مالتوس فحوى المعضلة السكانية ، يقول مالتوس ” وبحكم قانون طبيعتنا هذا الذي يجعل الغذاء ضروريا لحياة الإنسان، فلا بد من الإبقاء على تساوي النتائج المترتبة على هاتين القدرتين غير المتساويتين، وهذا يتضمن عائقا قويا باستمرار على منع زيادة السكان عن طريق صعوبة العيش ، وهذه الصعوبة يجب أن تحل في مكان ما ، ولا بد حتما أن يشعر بها فريق كبير من الجنس البشري”.

وهكذا خلص مالتوس ، إلى أن مشاكل الجوع والبطالة والفقر وسوء أحوال الصحة العامة وانتشار الرذيلة وفساد الأخلاق، إنما هي مشاكل حتمية لا ذنب لأحد فيها، وهي ترجع إلى مفعول هذا القانون الأبدي الذي يعمل في كل زمان ومكان وفي كل الظروف التي يمكن أن يعيش فيها الإنسان وأن كل هذه المشاكل لا صلة لها بالنظام الرأسمالي ولا بطريقة الحكم أو بسوء توزيع الثروة والدخل، وإن الفقراء بتكاثرهم يجلبون الشقاء لأنفسهم ، لأنهم يجهلون حقيقة سلوكهم الجنسي، ومايترتب عليه من نتائج وخيمة، ولهذا كان مالتوس يرى، أن أهم مساعدة يمكن أن تقدم للفقراء، هي تبصيرهم بقانون السكان،وتجدر الإشارة إلى أن مالتوس كان من أشد المعارضين لقانون “إغاثة الفقراء” الذي كان يقضي بتوزيع بعض المعونات على المعوزين، لأنه رأى أن إعانة الفقراء لا يكون من نتيجتها إلا تشجيع الفقراء على الزواج وزيادة نسلهم.

و بالإمعان النظر في الإطار الخلفي الذي انبثقت منه هذه الرؤية اللاإنسانية لمالتوس حول مشكلة زيادة السكان ، يمكن العثور بشكل واضح على مرتكزين فكريين أقام عليهما مالتوس هذه الرؤية، أما عن المرتكز الأول ، فهو يتمثل في تلك النظرة الخاطئة للتكاثر البشري على أنه عملية بيولوجية محضة، مستقلة تماما عن الظروف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للإنسان، وهي الفكرة التي تجد تعبيرها عند مالتوس بشكل جلي في مقولة “المتوالية الهندسية” للزيادة السكانية، وفي النظر إلى عنصر السكان أنهم عنصر مستقل وغير تابع ، ويقول مالتوس في هذا الخصوص:” إن الميل الدائم في الجنس البشري إلى الزيادة التي تتجاوز حدود وسائل العيش هو من القوانين العامة بالطبيعة الحية، التي لا يمكن أن تملك سببا يجعلنا نتوقع تغيره”، وقد أثبتت البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية خطأ هذه النظرة وأن السكان في أي مجتمع هم متغير تابع ولا يجوز معالجته بمعزل عن سائر المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية.

أما عن المرتكز الثاني ، فيتمثل في إيمان مالتوس الخاطئ بما يسمى “قانون تناقض الغلة” ، وهذا القانون الذي لعب دورا هاما في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي ولازالت له حق الآن غلبة على كثير من الكتابات الاقتصادية البورجوازية المعاصرة، الذي ينص على أن الزيادة التي تحدث في الإنتاج لا تتناسب مع الزيادة المستخدمة من عنصري العمل أو رأس المال، ذلك أن الأراضي الزراعية بعد حد معين تصل إلى حد التشبع ولا تؤدي الزيادة في استخدام عنصري العمل أو رأس المال إلى زيادة الناتج بنفس النسبة، وانطلاقا من هذا القانون ، كان مالتوس يرى أن قدرة الأراضي الزراعية على الإنتاج إنما هي قدرة محدودة للغاية، وتشكل بالتالي قيدا رئيسيا على النمو السكاني ،وليس يخفى ، أن الإيمان بهذا القانون كان يعني ، بشكل مباشر إهمال عنصر التقدم الفني ومدى إمكانية زيادة الإنتاج عن طريق التقدم العلمي والتكنولوجي ، وإهمال هذا العنصر الهام يهدم، من الناحية النظرية والتاريخية ، الأساس الذي قامت عليه نظرية مالتوس في السكان.
(يتبع)
ــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1): المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة ، تأليف د. رمزي زكي ، سلسلة عالم المعرفة العدد 84، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب -الكويت-.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.